مضى رمضان.. وجاء العيد.. ثم مضى العيد.. وها نحن لما شاهدناه على شاشة التلفاز نستعيد. وإن نسينا فلن ننسى هذا المسلسل الذى شد أعيننا وقلوبنا جميعا، وأعادنا إلى زمن المشاهدة الجميل. فهل شاهدتم مسلسل« سجن النسا«؟ من لم يشاهده فقد فاته نصف عمره( طبعا.. فأعمارنا تقاس هذه الأيام بعدد المسلسلات التى شاهدناها فى رمضان وغير رمضان!) لقد أخذنا المسلسل- بجد- إلى سيمفونية جميلة مبهرة متقنة الصنع من « الشقاء الإنسانى الكامل». ماهذا؟ وهل يمكن أن يكون الشقاء جميلا؟ نعم ..وإن أكثر أنواع الشقاء تأثيرا ما تم تقديمه إليك فى صورة فن جميل.. واسألوا إن شئتم هوجو وكامو وداستايافسكى ويوسف إدريس! غير أنه للأسف- فإن هذا الشقاء الجميل واقعى جدا. طيب ولماذا «للأسف»؟ لأن أكثرية نساء مصر فعلا مظلومات ظلم الإبل، سواء قال المسلسل ذلك أم لم يقل.. ومن كان ذا عينين فليتلفت حواليه ليرى .. وليقرأ إن شاء بؤس الوجوه لو كان يستطيع القراءة! وللذين تابعوا المسلسل نسأل: هل رأيت نظرة عيني« روبي» وهى تحرق ابنة مخدومتها.. وهل شممت رائحة الغل والحقد تطفح من العيون؟ هل انخلع قلبك وأنت تنظر فى عينيّ نيللى كريم إذ أتاها نبأ موت ابنها فى المستشفي؟ وهل تمعنت فى نظرة درة وهى تخلع العدسات اللاصقة من عينيها أمام المرآة بعد ليلة من الذل وبيع الجسد لمن يدفع أكثر؟ هل كاد ينساب من عينيك الدمع والمسكينة بنت كفر صقر شرقية « نسرين أمين» يبلغونها بسرقة الطبيبة المحترمة كليتها السليمة تاركة( الله يبارك لها!) الكلية المعطوبة المملوءة بالحصوات والألم؟ حتما سوف تطن فى رأسك مليون هل وهل وأنت تشاهد! إن سجن النسا- لمن لم يلحظ- هو عمل كله نساء فى نساء فى نساء. الكاتبة سيدة، والسيناريست سيدة، والمخرجة سيدة، وطبعا الممثلات نساء.. وما الرجال إلا هوامش مشاهدهم سريعة خاطفة على الشاشة.. سواء زوج غالية السجانة السجينة، أو والد رضا الخادمة، أو زوج تاجرة المخدرات عزيزة (سلوى خطاب). وتسأل: وما السبب فى كل هذا الشقاء؟ إنه الفقر بالتأكيد.. وهل هناك غيره لعنة الله عليه فى كل كتاب؟ وانظر إن شئت إلى الجميلة درة.. ما الذى دفعها إلى المرّ دفعا؟ أليس الذى أمر منه (الفقر)؟ ثم انظر إن أردت إلى مأساة غالية والبيئة العشوائية التى ولدت فيها وعاشت.. ألن تجد الفقر يخرج لسانه لك مع كل حركة كاميرا؟ وطبعا فإن الفقر فى كفر صقر، وفى كل كفر صقر، لا يحتاج إلى توضيح، فكلنا فلاحون ولاد فلاحين ونعرفه! .. ورجال المسلسل كلهم غدارون أوغاد وشياطين.. فهل حقا كل الرجال كذلك؟ بالتأكيد لا.. إلا إذا كان الفقر قد طحن عظامهم فسرق منهم المروءة والشهامة والمعنى الحقيقى للرجولة.. فمع الفقر لا النساء نساء ولا الرجال هم الرجال! إنك مهما قرأت عن الصراع الطبقى عند ماركس وأنجلز ولينين ورفعت السعيد فلن تفهمه حق فهمه كما ستفهمه من خلال نظرة روبى للكاميرا وهى تحرق ابنة مخدومتها التى أسبغت عليها نعمها وبلوزاتها وجيباتها وعاملتها كإنسانة.. لكن ماذا تقول فى إنسان أفقده الفقر إنسانيته؟ أليست روبى هذه هى التى رفض أبوها زواجها ممن تحب كى تبقى بقرة حلوبا يظل يحلبها وهو الكسلان العاطل الذى يعيش على قفا ابنته .. فلماذا لا تمتليء روح البنت بشهوة الانتقام وهى التى كبتوا فيها شوقها الغريزى للحب والزواج والاستقرار والشرف؟ .. يعنى تقتل؟ هل تبرر القتل إذن؟ لا.. لانبرر لأى شيء، لكن اقرأ صفحات الحوادث بالجرائد لتعرف الإجابات الصحيحة، وبعد أن تقرأ سل نفسك: إذا لم يمارس أمثال هؤلاء فعل القتل.. فمن ذا يمارسه إذن؟ ثم انظر إلى الكبيرة جدا نيللى كريم (الكبيرة فى التمثيل وليس السن لا سمح الله!) هل رأيت أداء بهذا الإبداع فى زمن عز فيه الإبداع؟ وكما هو معروف فإن الممثل اللى بجد لا تعرفه إلا إذا طلبوا منه أداء الأدوار المعقدة المركبة، وهل هناك أعقد من سجانة تتحول ظلما إلى سجينة ضاع منها الضنا والزوج والحب؟ آه.. لكن المسلسل حزين كئيب ومتشائم؟ لاشك.. لكن أليس من الكآبة والحزن والتشاؤم يولد القتل؟ ملحوظة الختام: رغم كل هذا التشاؤم- صدق أو لا تصدق- يبقى هناك أمل.. فما هو يا تري؟ إن جميع صنايعية هذا المسلسل هن نساء.. ولسن كأى نساء.. بل مبدعات على أعلى مستوي.. وهكذا فإن مصر، رغم الألم والهموم، مازالت قادرة على إنتاج المبدعين من الرجال.. والنساء أيضا! لمزيد من مقالات سمير الشحات