مدهشٌ غضبُ السجّانات الفاضلات من مسلسل «سجن النسا»! مدهشٌ خلطُ الغاضبات الدراما الخيالية بالواقع! مدهشٌ شخصنتهن الأحداث وإسقاط كل ما جرى فى المسلسل على حيواتهن الخاصة! مدهشٌ تلبُّس كل منهن شخصية «غالية» السجّانة التى غدت سجينةً، ظلماً! مدهشٌ أن يرى كل زوج سجّانة فى نفسه «صابر» النصاب الكذوب الذى يعيش على قوت النساء ويُحمّل سواه جرائمه! مدهشٌ أن تقول السجّانة، الموظفة المحترمة بوزارة الداخلية، إن المُشاهِد قد كره مهنة السجّانة بعد مشاهدته المسلسل! والصحيح لكل ما سبق هو العكس تماماً. ثمة سؤالان يجب الإجابة عنهما. 1- مَن السجانة فى «الواقع»؟ الإجابة: مربيةٌ ومُصلحة تربوية وخُلقية. وظيفتها، ليست وحسب، مراقبة السجينات حتى يلتزمن بالتعليمات ولا يحاولن الهرب، بل الأهم والأخطر أن وظيفتهن هى تقويمهن وإعادة تأهيلهن حتى إذا ما خرجن للنور، بعد قضاء مدة عقوبتهن، انخرطن فى المجتمع من جديد وغدون مواطنات صالحات. 2- ما الصورة الذهنية «الخاطئة» للسجّانة فى «الوعى الجمعى» للمُشاهدين، قبل المسلسل؟ الإجابة: امرأة فظّة غليظة الملامح، قاسية القلب، تتعامل مع السجينات كأنهن حيوانات، لا بشر. تضرب السجيناتِ بالسياط، وتُفرغ فيهن همومَها. إن عانت السجّانةُ فى بيتها، تُسقط قسوة زوجها على السجينات. إن تعرّضت لمضايقات فى المواصلات أو قاست شظف العيش، وهموم الأولاد، سكبت قسوتها على السجينات كنوع من المُعادل الموضوعى الإنسانى. القوى يعذّب الضعيف، فيردّ هذا الضعيف بتعذيب الأضعف، وهكذا فى دائرة لا تنتهى. ذلك ما كنّا نظنه فى وظيفة «السجّانة» قبل مشاهدة المسلسل. مثلما نسمى كل جبار نراه فى حياتنا: «عشماوى»، رغم أن هذا العشماوى ليس إلا موظفاً يؤدى واجبه، وربما ينفطر قلبُه مع كل شَدة ذراع مقصلة، وتتفتت روحه مع كل روح تصعد إلى السماء مع قبضته على رافعة أنشوطة المشنقة. لكن المسلسل كشف لنا الوجه «الإنسانى» للسجّانة. فشاهدناها تتعاطف وترحم وتبكى على سجينة مريضة، وتساعد أخرى على الولادة، وتحنو على مُقبلة على الإعدام، وترأف بمريضة نفسية قتلت أطفالها. شاهدنا مرارة سجينة مظلومة كانت سجّانة قبل أيام. نجحت «غالية» فى أن تسرق منّا، نحن المشاهدين، تعاطفَنا حتى وهى تقتل الذين دمّروا حياتها وزجّوا بها للسجن ظلماً، وقتلوا طفلها الأوحد. أن تجسّد باليرينا فاتنة، مثل «نيللى كريم»، دور سجّانة، ثم سجينة، يعنى أن نرى الوجه الجميل لمهنة مظلومة فى الوعى الجمعى. كنا نظنّها فظة، فرأيناها شاحبةً مغلوبة على أمرها. نظّنها تحمل سوطاً فى يدها، فإذا بقلبها مرتعٌ لكل سياط الظلم والقهر الذكورى والفقر والجهل واليُتم والثكل وانكسار القلب. أن تجسّد الفنانة «سلوى عثمان» دور سجّانة نمطية على هذا النحو المدهش، يعنى أن نعرف كيف تحنو الأم على بناتها، وإن كنّ طريدات العدالة. أن تجسّد المبدعة «سلوى خطّاب» دور تاجرة مخدرات جبارة، يعنى أن تُعلمنا أنه ليس ثمة شيطانٌ كامل، ولا ملاكٌ كامل، بل يقف الإنسانُ بينهما دائماً. تلك «المعلّمة» التى تدمر أولادنا بالمخدرات القاتلة، جهلاً، أو طمعاً، تحمل، رغم هذا، قلباً يرقّ للفقير ويحنو على المستضعَف. أما «روبى»، بأدائها الفذّ لدور الخادمة التى ستتحول إلى قاتلة فى لحظة غياب عقل، فتعلّمنا أن للخادمة مشاعرَ وأحاسيس وكرامة وأحلاماً صغيرة من العيب تجاهلها، لئلا نحوّل الأبرياء إلى مجرمين، دون أن ندرى. مسلسل عبقرى كسر الصور النمطية «الوهمية» التى نحملها فى أذهاننا عن البشر الذين يختفون عن عيوننا وراء قضبان جامدة. تحية لكل من شارك فيه.