لم تشهد الأراضى الليبية تصعيدات أمنية منذ ثلاث سنوات فى خطورة تلك التى تشهدها هذه الأيام.. وربما كانت حالة الاجلاء الجماعية للأجانب الموجودين على أراضيها هى أبرز الشواهد على حالة الانفلات الأمنى التى لم تعد تجد من يتصدى لها فى ليبيا. وإن دلت هذه التصعيدات على شيء فإنما تدل على محاولات الميليشيات الإسلامية المسلحة المستميتة لاجهاض عملية الكرامة التى قام بها اللواء المتقاعد خليفة حفتر للقضاء على الإرهاب وإنهاء المظاهرات المسلحة فى الشوارع وإعادة تأسيس هيكل الدولة من جديد. وللوقوف بصورة أوضح على تفاصيل المشهد الليبى نجد أن على أرض المعركة أكثر من مجرد طرفين، وأن القتال يدور بين قوات حفتر وميليشيات مجلس شورى ثوار بنغازى وقوات فجر ليبيا التى يقودها نورى أبو سهمين رئيس المؤتمر الوطنى الليبي، فضلا عن عدد من الميليشيات الأخرى الصغيرة التى تنتشر فى الشوارع والأذرع المختلفة للتنظيمات المشبوهة التى تنتشر فى جميع أنحاء ليبيا. إلا أن اللافت للانتباه هو أن الحرب الطاحنة الدائرة حاليا فى ليبيا تتركز دائرة الصراع فيها على السيطرة على المطارات الليبية، وكأن الهدف هو إحكام اغلاق مداخل و مخارج هذا البلد لتدميره بشكل كامل وفى أسرع وقت ممكن. وكان الشاهد الأهم على مدى نفاذية وسلطة الميليشيات الاسلامية فى ليبيا هو منع المسلحين لرئيس وزرائها عبد الله الثنى من السفر عبر مطار معيتيقة إلى مدينة طبرق شرق البلاد. ويعد هذا المطار هو المنفذ الجوى الوحيد العامل فى العاصمة الليبية طرابلس بعد أن دمر القتال المتواصل منذ أكثر من عشرة أيام منشآت فى مطار طرابلس الدولى وعددا كبيرا من الطائرات المدنية الموجودة هناك على أرضه. ويقع مطار معيتيقة الآن تحت سيطرة أنصار عبد الحكيم بلحاج القيادى السابق فى الجماعة الليبية المقاتلة على الرغم من أن رئاسة أركان الجيش الليبى قد أعلنت يوم 12 يوليو الماضى تسلّم الجيش الليبى قاعدة معيتيقة الجوية من ثوار كانوا يسيطرون عليها منذ نحو ثلاث سنوات، وقد تم التسليم خلال حفل رسمى بحضور عدد من مسئولى الحكومة وأعضاء المؤتمر الوطنى العام، أعلى سلطة فى البلاد. ومكمن الخطورة فى سيطرة هذه الميليشيات على مطار معيتيقة هو أنه اصبح أكبر قاعدة جوية فى ليبيا منذ سقوط نظام القذافى فى 2011، ليست خاضعة إلى مؤسسات الدولة الشرعية. أضف إلى ذلك أن هذا المطار يقع داخل قاعدة عسكرية، وعادة ما كان يستخدم فى نطاق رحلات محدودة تقل الشخصيات المهمة والعسكريين الكبار. هذا التلاعب من جانب الميليشيات المتأسلمة إن دل على شيء، فإنما يدل على أن قوات اللواء حفتر لا تستطيع فرض السيطرة التامة على مجريات الأمور فى ليبيا، بل و ينقصها الكثير من أجل تحقيق ذلك. كما يكشف فى الوقت نفسه عن أن الميليشيات المسلحة التى يواجهها حفتر مدعومة وبقوة من أطراف خارجية لا تدعمها لوجيستيا فقط، وإنما أيضا ترسم لها خطة عملها على الأرض. ويشار هنا إلى أن عملية تسليم المطار لم تكن سوى خدعة من جانب الميليشيات التى سلمته صوريا للجيش الوطنى مقابل أن تقوم كتائب »الزنتان« هى الأخرى بتسليم مطار طرابلس الدولى للسلطات الرسمية، لكن سرعان ما نكصت كتائب بلحاج عن تعهداتها وهو ما ينذر بقوة إلى أن الصدام قريب جدا بينها وبين كتائب الزنتان. وقد بدأت ملامح هذا الترجيح بالفعل تتحقق ميدانيا، حيث اشتبكت قوات مجلس شورى ثوار بنغازى مع قوات اللواء خليفة حفتر لدى محاولة الأخيرة دخول مدينة بنغازى من جهة منطقة سيدى فرج، إلا أنها باءت بالفشل بعدما تصدت لها قوات مجلس شورى ثوار بنغازى بأسلحة خفيفة ومتوسطة، من دون وقوع خسائر بشرية. أما مطار طرابلس الدولى الذى يدور حوله جانب كبير من الصراع فى المشهد الليبى اليوم فهو الآن تقريبا تحت السيطرة الكاملة لقوات فجر ليبيا التابعة لنورى أبو سهمين رئيس المؤتمر الوطنى (أعلى هيئات الدولة الليبية حاليا). وقد تحققت هذه السيطرة لكتائب أبو سهمين بعد كثير من الدماء والمعارك شهدتها منطقة الزنتان . بعد ان امتدت الحرب الممنهجة للسيطرة على مطارات ليبيا إلى الجنوب، حيث يقع مطار »غدامس« الذى هاجمته ميليشيات من »القعقاع« و»الصواعق« وسيطرت عليه. ويرجع السبب وراء السيطرة على مطار »غدامس« على وجه التحديد الى أن مشكلة وصول شحنات الأسلحة وتسلمها كان أبرز ما يواجه الميليشيات بعد سيطرة فصائل دون أخرى على المطارات الليبية. فقد كان من المفترض أن تصل شحنات من السلاح من دولة روسيا البيضاء فى الأسبوعين الماضيين، وكان مقرراً أن تهبط هذه الطائرات على مهبط للطائرات فى مدينة الزنتان إلا أن مشكلات فنية حالت دون ذلك، ما اضطر الميليشيات إلى احتلال مطار »غدامس« لاستخدامه فى هبوط الطائرات. إن التحرك الممنهج للسيطرة على مطارات ليبيا سيترتب عليه الكثير من النتائج الكارثية على ليبيا والمنطقة بكاملها.. ولعل أخطر هذه النتائج على الليبيين هو اجهاض عملية الكرامة التى قامت من أجل انهاء سيطرة المليشيات المسلحة المتطرفة على زمام الأمور فى ليبيا. فضلا عن زيادة السلاح أضعاف ما هو عليه الآن. أما على صعيد المنطقة بأسرها فسيدفع الجميع فاتورة تحول ليبيا إلى بؤرة ارهابية قد تضع داعش يدها عليها فى أقرب وقت لتعلن بذلك تمدد دولتها الجديدة واتساع نطاقها.