عندما أصدر عالم الدراسات الاجتماعية والبحث الاجتماعى الميدانى الراحل الدكتور سيد عويس كتابه الفذ «هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر» لم يكن يدور فى خلده حجم رد الفعل والتأثير لهذا الكتاب عند مستويات عدة من القراء بدءًا بالمفكرين والمثقفين وانتهاءً بطلاب المعرفة والثقافة، وهو يحاول اكتشاف أسلوب جديد لمواجهة المجهول فى مجتمعنا المصرى المعاصر. وفى أثناء هذا البحث لاحظ ما يكتبه أصحاب السيارات والأتوبيسات واللوريات والعربات، وما يكتبه سائقوها، من كلمات وعبارات على هياكلها أو يعلقونه من أشياء معينة درءًا للحسد أو طلبًا للرزق أو رجاءً للوقاية من المجهول. واستمر يسعى - طيلة ثلاث سنوات - انتهت فى آخر أغسطس 1970 - وراء كل سيارة ملاكى ووراء كل سيارة تاكسى ووراء كل أتوبيس وكل لورى وكل عربة كارو أو عربة لبيع المأكولات أو المشروبات فى إحدى عشرة محافظة من محافظات مصر، حتى جمع ألف كلمة وعبارة من خمسمائة مركبة تجوب الآفاق شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا. والناس - فى ظل المناخ الاجتماعى الثقافى لهذا المجتمع - يمارسون جلجلة هذه الأصوات فى مناسبات كثيرة أبرزها ما يكون عند الصلاة وعند الدعاء وفى حلقات الذكر وفى رحاب المساجد والكنائس والمعابد وفى ملاعب الكرة وفى الملاهى والحفلات الغنائية وفى المباريات الرياضية، والنكت ذات المضمون السياسى أو الاجتماعى وأمام الموت، وعن طريق إرسال الرسائل إلى الأموات، والكتابة أو الرسم فى داخل دورات المياه وغيرها. واكتشف العالم الكبير وهو يقوم بجمع الكلمات والعبارات - المكتوبة على هياكل هذه المركبات - تنوُّعها وتكرارها وتباين أشكالها ومعانيها، وأنها لا تتعلق فقط بوجود أسلوب جديد لمواجهة المجهول، بل هى تتعدى ذلك إلى آفاق أوسع تمسّ المناخ الاجتماعى الثقافى لهذا المجتمع وتعكس الكثير من العناصر الثقافية غير المادية التى تملأ هذا المناخ وتعيش فى كيان أعضائه وفى نفوسهم، وكأنها جهاز إعلامى شعبى من أجهزة الإعلام فى مجتمعنا المصرى المعاصر يتحرك على امتداد مدن هذا المجتمع وقراه. كانت الملاحظة الأولى للمؤلف فى مواجهة هذه الظاهرة - ظاهرة الكتابة على هياكل السيارات واللوريات والعربات - وبخاصة ما تضمنته من كلمات ترجو الوقاية والنجاة وتحقيق السلامة، أنها أسلوب من أساليب مواجهة المجهول فى مجتمعنا.. وبتأمله فيما يعلقونه من أشياء معينة مثل المصحف الكريم (من الحجم الصغير) وخمسة وخميسة ومسبحة وحجاب وعقد من الودع أو من سنابل القمح وقطعة من الشبة وبعض الدمى على شكل سمكة أو قرن شطة أو حدوة حصان أو حذاء قديم، أدرك أنها جميعًا تحمل معانى التيمن والتفاؤل بها وردّ عين الحسد، فضلاً عن طلب الرزق أو الوقاية من شر المجهول بصفة عامة. الأمر إذن فى رأيه يتطلب الدراسة الاجتماعية العلمية بعد اقتناعه بأهمية رصدها وتحليلها والتأمل فى عناصرها. معترفًا بأن ما جمعه من هذه الكلمات والعبارات على مدى ثلاث سنوات (سبتمبر 1967 - أغسطس 1970) ليست كل ما هو مكتوب على هياكل السيارات فى كل ربوع مصر، لكنها - فى مجموعها - تمثل عينة ممتازة جديرة بالدراسة ووضع خطة لتحليل المضمون وتقسيمها إلى وحدات أو فئات تحليلية، تمكن من تحليلها كمِّيًّا فى أول الأمر ثم كيفيًّا بالنسبة لمضمون كل الكلمات والعبارات. وكان التقسيم الذى توصل إليه يقوم على نوع المركبات (سيارة ملاكي، سيارة تاكسي، لورى أو عربة نقل، أوتوبيس، عربة مأكولات أو مشروبات، عربة كارو)، والمحافظات التى تشرف إداريًّا على المركبات (القاهرة، الجيزة، الدقهلية، القليوبية، أسوان، بنى سويف، الشرقية، الإسكندرية، الغربية، كفر الشيخ، الأقصر، دمياط، البحيرة)، ومضمون الكلمات والعبارات (أسماء، دعوات وابتهالات، بدايات الأغاني، تحذيرات، لفظ الجلالة) والأشكال الشعبية (أجزاء من الأغانى المصرية، تعبيرات شعبية، تحذيرات، أمثال شعبية، نصائح، تحيات)، والأشكال الدينية (دعوات وابتهالات، آيات قرآنية ، أحاديث نبوية، آيات من الكتاب المقدس) وأشكال أخرى تتمثل فى (الأقوال المأثورة، والأسماء الموصوفة، والأسماء). ومن الألفاظ الشائعة: لفظ الجلالة أو مشتقاته، العين، الحب ومشتقاته، السلامة أو الستر، أسماء الرسول الكريم، الصبر ومشتقاته، وأولياء الله أو القديسون: أم هاشم ، والحسين، والسيد البدوي، والمتولي، ومار جرجس، وأبو العباس، والعدوي، والغريب، وأهل البيت. والحمد أو الشكر، والظلم ومشتقاته، والتوكل ومشتقاته، والحسد، والرزق، والقضاء والقدر، والقناعة وغيرها. ولأن مؤلف هذا الكتاب عالم جليل من علماء الدراسات الاجتماعية يتسم بتواضع العلماء الحقيقيين، ويعترف بأوجه القصور فى الدراسة التى لم يتح له فيها زمن أطول (بالرغم من انشغاله بها وانقطاعها لها طيلة ثلاث سنوات) وضيق ذات اليد عن الوصول إلى عدد أكبر من المركبات وأصحابها وسائقيها، فهو يدرجها فى مجال الدراسة الاجتماعية من زاوية أنثروبولوجية، لأن موضوعاتها مسألة اجتماعية ثقافية، استخدمت فى جمع بياناتها الملاحظة المباشرة، ولأنها تتعلق بنوع معين من السلوك الاجتماعى فهى تدخل فى نطاق الدراسات النفسية. وهو يرى أن المختص فى علم النفس من حقه أن يدلى بدلوه عند تناول هذه الظاهرة ويعتذر عن خلو الدراسة من الدراسة النفسية المتخصصة لأنها خارجة عن مجال تخصص الكاتب. وهو درس فى التواضع والموضوعية والأمانة العلمية يقدمه الدكتور سيد عويس إلى سائر العلماء والباحثين فى كل مجال. ولا يفوته أن يقدم فى ثنايا كتابه البديع والمهم بيانات عامة عن الكلمات والعبارات التى أصبحت موضوع دراسته والتى أخذها من خمسمائة مركبة، منها 200سيارة تاكسى بنسبة نحو 40%، و177 سيارة لورى أو نقل بنسبة نحو 53,4% و50أتوبيسًا بنسبة نحو 10% و47 عربة مأكولات أو مشروبات بنسبة نحو 9,4% و20 عربة كارو بنسبة 4% وست سيارات ملاكى فقط بنسبة 1.2%. وقد احتلت القاهرة المرتبة الأولى فى هذه العينة التى خضعت للدراسة بواقع مئتى مركبة من القاهرة ومئة وثلاثين من الجيزة وخمس وثلاثين من أسوان وثلاثين من الإسكندرية وثلاثين من بنى سويف وعشرين من الدقهلية وخمس عشرة من الغربية وخمس عشرة من كفر الشيخ وعشر من القليوبية وعشر من دمياط وخمس من الأقصر. وقد لاحظ الدكتور سيد عويس أن بعض هياكل المركبات كان مكتوبًا عليه أكثر من كلمة وأكثر من عبارة، ووُجدت على البعض الآخر كلمة واحدة أو عبارة واحدة، مع تنوع فى هذه الكلمات والعبارات وتكرار بعضها وتباين أشكالها ومعانيها، كما لاحظ أن عدد الكلمات والعبارات المجموعة من هياكل سيارات التاكسى أكبر من كل الكلمات والعبارات المجموعة من هياكل المركبات الأخري، وأنها تمثل أربعمائة كلمة وعبارة بنسبة نحو 40% تقابلها ثلاثمائة وستون كلمة وعبارة على هياكل اللوريات وعربات النقل بنسبة نحو 36% ومئة كلمة وعبارة على هياكل الأتوبيسات بنسبة نحو 9,4% وأربعون كلمة وعبارة على هياكل عربات الكارو بنسبة نحو 4% وأخيرًا ست كلمات وعبارات فقط على هياكل السيارات الملاكى بنسبة نحو 0,6%. أما الألفاظ الشائعة فى الكلمات والعبارات التى اشتملت عليها الدراسة، والنتائج التحليلية التى توصل إليها الدكتور سيد عويس فى ختام دراسته، وحجم الإفادة من هذه الدراسة فى حياة مجتمعنا المعاصر، فموعدنا معها المقال القادم. لمزيد من مقالات فاروق شوشة