ربما تظهر العشوائيات بوصفها مرآة لواقع قاس، وموحش تحياه طبقات اجتماعية نهشها الجوع، ونال منها العوز، وإذا كانت الصبغة السياسية بتكويناتها الاقتصادية/ الاجتماعية تحدد الأفق الملغوم الذى يظلل هذا الموضوع، فإن التحليل السسيو- ثقافى ربما يكشف عن كوارث أكثر فداحة تنتظرنا جراء التوسع العشوائى فى بنايات هى فى حد ذاتها تشكل أحزمة مادية للفقر والجوع. قد يظهر لنا من العشوائيات بناؤها الأنطولوجى/ المادي، المتعين والملموس، بمظاهره، ولوازمه، بدءا من غياب التخطيط للمكان، مرورا بضيق البنايات، وصولا إلى انعدام الخدمات الاجتماعية داخلها، فتغيب الحاجات الأساسية للبشر، وتغيب معها المؤسسات التعليمية والصحية، ومن ثم تبدو العشوائيات بوصفها تعبيرا دقيقا عن سلوكيات الفقر والزحام، وبما يشكلانه من ثقافة تختص بأنماط أدائية وحياتية قد تعلى من قيم الأثرة، وسكونية التفكير، والذى يصبح هنا جزءا من رتابة العالم، وبؤسه، أما الأدهى فإنه على الرغم من الحشد البشرى لكتل سكانية ضخمة فى أمكنة بالغة التعاسة والضيق، فإن ثمة إحساسا عارما بالاغتراب قد ينتاب أبناء هذا المكان العشوائي، فينفصل الإنسان عن البنية الاجتماعية المحيطة به، أو قد يقع نهبا لاغتراب من نوع آخر أطلق عليه ريتشارد شاخت «الاغتراب الذاتي» الذى يحدث عندما يخفق المرء فى أن يحقق ما يريده. ولكن هل تعرف الأمنيات طريقا لعالم مسكون بالوحشة، والفقد، وامتهان إنسانية الإنسان؟ إن الثقافة الغائبة عن واقع المصريين، والمبتعدة عن محاولة تحرير وعيهم، يبدو غيابها أكثر فداحة فى الأمكنة العشوائية، لأنها حينئذ تفقد ناسها الأصليين، والتى من أجلهم وجدت، وغيابها يعنى مزيدا من سجن البشر فى ظل سياق عارم من تزييف الوعى وتسطيحه، وبما يوجب على الدولة التزاما صوب تثقيف ناسها وتثوير وعيهم، هذا الالتزام الذى يجب ألا يظل حبيسا لنصوص الدستور، بل يجب أن تراه الجماهير على أرض الواقع. وربما يبدو التوصيف المتداول للعشوائيات باعتبارها هى تلك «المناطق المحرومة من الخدمة»، يمثل التعبير الناجع عن حالة الغياب للدولة داخل هذه المناطق السكنية من جهة، والبؤس الحياتى الذى يحيا فيه سكانها من جهة ثانية. وإذا كانت هناك مدلولات سلبية عديدة يمكن تلمسها جراء انتشار العشوائيات فى المحروسة، خاصة مع توالى الهجرات الريفية للمدن، ووجود مخاطر اجتماعية وسياسية، فإن البعد الثقافى يبدو بارزا بدوره فى هذا السياق، فالكيانات الهشة اجتماعيا، والمحاطة بكافة أشكال الحرمان الاجتماعي، والعوز الاقتصادي، فضلا عن المناخ العام، والمسكون بروح لا تملك تصورا منفتحا صوب الحريات العامة، وحريات الرأى والتعبير وإطلاقها، ومن ثم قد تتشكل إحدى حالتين لدى سكان المناطق العشوائية: إما حالة من اللامبالاة بالواقع الخارجي، جراء انسحاقهم تحت وطاة الواقع، واستلابهم روحيا، ومعنويا، وهذه الحالة شديدة التأثير على قيم الانتماء للمكان الأم «الوطن»، خاصة مع المعاناة اليومية داخل مكان يفتقد أبجدية العيش الإنساني. أما التأثير الثانى فيبدو أكثر كارثية، فقد يتحول فيه الفرد إلى كائن محمل بطاقة عدوانية صوب مجتمعه، خاصة مع شيوع مناخ من الإحباط، والفشل فى تحقيق ما يريد الشخص أن يكونه، ومن ثم قد تخرج هذه الطاقة المحملة بمشاعر عدائية فى صيغ مختلفة، بدءا من القيام بأعمال البلطجة، ووصولا إلى الإرهاب ذاته، وليس خافيا على أحد أن المتشددين فى غالبيتهم ينتمون إلى بيئات محرومة اجتماعيا وثقافيا، حيث تتحول هذه البيئات إلى وسط خصب لإنتاج التطرف، والغلو فى الدين، والتمسك بالقشرى من الأشياء، وترك الجواهر لصالح العوارض، حيث يصير التدين المتشدد بمثابة آلية دفاعية لمواجهة قسوة الواقع وانحطاطه من جهة، أو محاولة لتخليق مكانة اجتماعية جديدة تستند على الحصول على لقب «شيخ» هربا من الماضى المثقل بالعوار، وبما يتيحه له هذا اللقب الجديد عبر ممارسات دينية رجعية ومتخبطة، تدعى التحدث باسم السماء، وفى ظل حالة التفويض الإلهى التى تمنحها التيارات الأصولية لأبنائها زورا وبهتانا. إن تحول العشوائيات إلى بؤر ملتهبة سياسيا/ ثقافيا وما يعنيه ذلك من مشكلات اجتماعية لا حصر لها، يفضى وبلا مواربة إلى نشوء كتل متحركة من اللهب، تحيا فى ظروف بالغة القسوة، وبالغة العتامة. إن الفعل الثقافى والذى هو بالأساس انحياز إلى الجدارة الإنسانية، يبدو معطلا تماما فى المناطق العشوائية التى تحوى ناسنا وأهلنا من القطاعات المهمشة والمعدمة داخل مجتمعنا المصري، وبما يعنى حتمية استعادة الدولة دورها الثقافى فى تلك المناطق، مدركة ان التنمية الحقيقية تبدأ من البشر، من تنوير وعيهم، وخلق ذهنية جديدة بنت أوانها، ولحظتها الراهنة. على الدولة المصرية أن تنظر للتنمية بوصفها كلا واحدا، وليست جزرا منعزلة، وأن توفير الحاجات الأساسية للعيش الكريم لناسنا فى المناطق العشوائية خطوة أولى ومركزية تتجاور معها خطوات أخري؛ بغية خلق سياقات جديدة تهتم بالتعليم والتثقيف وتحرير الوعي.وأن تدرك أيضا أنه لا انفصال بين الديمقراطية السياسية وجناحها الحرية، والديمقراطية الاجتماعية وجناحها العدالة الاجتماعية، فالعلاقة بينهما جدلية، وكل واحدة منهما يجب أن تفضى إلى الأخري. إن الاهتمام بالمناطق العشوائية وتطويرها وبث نفس جديد داخلها، وإزالة كل جوانب الظلم الاجتماعى عن أهلها كفيل بوضع الإنسان داخلها على عتبة الوعى المركب بالعالم، ومن ثم تنتقل هذه المناطق من خانة الأمكنة المصدرة لذلك الوعى الماضوى القديم والذى يؤدى فى الغالب إلى إنتاج متطرفين جدد إلى خانة الأمكنة التى تملك قابلية التحول لمراكز إشعاع فكرى وثقافى حر، ومختلف، وجديد. تعرف المناطق العشوائية هامشا من نوع جديد، يمكن ان أسميه ب«هامش ما بعد القاع»، وبما يجعل أنماط العلاقات الاجتماعية نفسها خربة، وصدئة، فتظهرمجموعة من أقسى السلوكيات وأكثرها نفورا للفطرة الإنسانية، مع غياب منظومات القيم الإيجابية التى يراد التكريس لها لخلق إنسان منتج، يثق فى قدراته، وفى المحيط الاجتماعى الذى يعيش فيه. وبعد.. على الدولة المصرية أن تؤمن بالإنسان أكثر، وأن توقن أنه لا تنمية بدونه، ولا حل لإشكالية العشوائيات دون نسف أحزمة الفقر والجوع الرابضة على قلوب قطاعات واسعة من المصريين، وأن التنمية الشاملة تعد بمثابة الحل الناجع لمشكلات الواقع المصرى المأزوم، الذى يعانى منذ أربعين سنة تقريبا، فأصبحت التراكمات السلبية جبلا لن يهدم إلا بهدم التحالف بين الفساد والرجعية، ومثلما كان فساد الجهاز الإدارى وعجزه سببا فى انتشار العشوائيات على نحو كثيف، كانت الرجعية نتاجا طبيعيا لهذا الواقع السياسى/ الاجتماعى الهش، والاستهلاكى، والفارغ من المعنى. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله