ربما كان المشهد الأكثر عتامة وقسوة في آن تلك الجثث المكومة فوق عربة الكارو وهي تسير صوب طريق مجهول، مسكون بدماء القتلى جراء صراع قبلي/ عرقي بين النوبيين من أبناء «قرية دابود» وقبائل «بني هلال»، من جانب آخر، فالمكان الحاضن لتنوع ثقافي خلاق بات مشغولا بالثأر في لحظة مفصلية وفارقة في عمر الأمة المصرية. وربما تبدو المقدمات واحدة دائما في مثل هذه الحوادث، كتابات عنصرية على حائط متهدم دلالته على الموت أكثرمن دلالته على الحياة، مخطوطة بيمين واحد، وبآثار لا تخطئها عين لمستفيد وحيد من تأجيج صراع قبلي/ عرقي جديد بعد فشله في إشعال صراع طائفي يلتهم كل شيء. تنهض على إثر الكتابات حالة عارمة من الغضب المسلح بفعل الفوضى والتراخى الأمني، فتنطلق الرصاصات كما تتطاير الجثث في معركة دامية لم تلبث أن تهدأ حتى تشتعل من جديد. حكاية تحيلك عزيزي القاريء إلى عالم قديم بامتياز، مغدور بأهله وناسه، أولئك الذين يدفعون وحدهم ضريبة الإهمال والنسيان من دولة تتآكل مفاصلها عبر أربعين عاما من تحالف الفساد والرجعية، بدءا من العام 1974م «عام الانفتاح الاقتصادي»، وما تلاه من هزة قيمية ومجتمعية عصفت بكل ما هو نبيل وحر وإنساني في مجتمعنا، وفي العام الذي حكم فيه الإخوان الفاشيون حكم البلاد كان الجنوب المصري تحديدا مسرحا لمحاولات ماكرة لتغيير البنية الاجتماعية للمكان ومحوها لمصلحة تركيبة أخرى أكثر موالاة لهم، وربما رأينا هذا من قبل في مدن ومحافظات جنوبية عديدة مثل قنا، وبدلا من الاهتمام بالتنمية بوصفها طريقا لمغالبة الثأر، الناتج عن عوامل متداخلة من الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي والسياسي، غابت الدولة بإرادتها، وأصبح إذكاء روح التعصب القبلي تارة، والطائفي تارة أخرى خبزا يوميا تصنعه منابر إعلامية ودينية وعشائرية، في صمت مخز للدولة العاجزة عن تبصير مواطنيها بواقعهم، ورفدهم بمخزون وافر من الوعي. وفي مجتمعات لا تزال عشائرية، تغيب روح الوطن لتحل محلها روح القبيلة، وتغيب ثقافة التسامح لتحل محلها ثقافة الثأر، والأدهى غياب المشروع الوطني الجامع القادر على استيعاب كافة التنويعات الماثلة في الجسد المصري، والتي كانت دوما دليل حيويته، وعلامة على حضوره المختلف والخلاق. أما الأكثر خطورة فهو غياب الشفافية عماحدث بالضبط، وتضارب الروايات الشفاهية والمنقولة حولها، بدءا من حكاية التراشق اللفظي بين طلاب إحدى المدارس الثانوية الصناعية من أبناء النوبة، وبعض أبناء بني هلال، وبما أفضى إلى مشاجرة دموية، لم تلبث أن تتوقف حتى تعاود الكرة من جديد عبر سياق من الشائعات التي لعبت على تغليب النزعة العشائرية لدى كل فريق، وصولا إلى اقتتال كامل بالأسلحة، وفي ظل غياب أمني لافت عن المعركة الضارية من جهة، وعن المكان نفسه المعبأ بالأسلحة والمخدرات من جهة ثانية «منطقة الشعبية بالسيل الريفى بمدينة أسوان». على الدولة المصرية إذن إنفاذ القانون، والكف عن التعاطي الرخو مع المشكلات، والعمل على إيجاد حلول دائمة لمشكلات الأمن والبطالة والفقر داخل الجنوب، والبحث عن طرق للعيش الكريم لأهالينا في أسوان لحين استعادة السياحة عافيتها، خاصة في المناطق الداخلية، والعمل على تنمية المكان اقتصاديا واجتماعيا، وتأسيس مشروعات تبتعد عن الصيغة الاستهلاكية، وتصبح بنتا لبيئتها المحلية، فضلا عن تفعيل قيم المواطنة بحق لتكون قانونا يمشي على الأرض لا محض رطان في الدساتير، والأهم ضرورة الإعلاء من كل قيم التقدم والاستنارة والتسامح. على الدولة المصرية أن تدرك أن وسيلتها الأساسية في مجابهة كل الصراعات القبلية والطائفية القابلة للانفجار طيلة الوقت بفعل بنية سياسية وثقافية مهترئة، هي الرهان على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بوصفهما جناحين أساسيين لأي مشروع مستقبلي للأمة المصرية، وبما يعني أيضا حتمية الوعي بالدور الاجتماعي للدولة صوب أبنائها من جهة، وسعيها لتنوير وعيهم من جهة ثانية. ما حدث في أسوان من اشتباكات دموية راح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين لم يكن سوى تعبير عن واقع اجتماعي محتقن يجد ضالته في التنفيس دوما، إما عبر صراع قبلي ، كما حدث في أسوان، أو طائفي كما حدث في المنيا وغيرها مرارا وتكرارا، وبما لا ينفي أيضا وجود أياد للإخوان ومن والاهم بحكم كراهيتهم التاريخية لكل ما هو وطني، وسعيهم الدءوب لكسر الإرادة المصرية المجيدة في الثلاثين من يونيو. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله