الاجتماع الطارئ لمجلس الامن القومى الروسى الذى دعا اليه الرئيس فلاديمير بوتين الاسبوع الماضى فى اعقاب احتدام الجدل حول ملابسات حادث اسقاط طائرة الركاب الماليزية على مقربة من الحدود الروسية داخل اوكرانيا، كشف عن الكثير من القلق الذى يساور القيادة الروسية تجاه احتمالات اتساع نطاق العمليات العسكرية فى المنطقة، فى توقيت يحذر فيه البعض من احتمالات إقدام أوكرانيا على مغامرات غير محسوبة قد تكون منها محاولة استعادة شبه جزيرة القرم بالقوة، يتوقعونها فى شهر سبتمبر المقبل. احتدام المعارك فى شرق اوكرانيا واسقاط طائرة الركاب الماليزية واستمرار محاولات واشنطن تشديد العقوبات ضد موسكو، حلقات مترابطة تشكل مفردات المشهد السياسى الراهن الذى دفع الرئيس بوتين وعلى ما يبدو الى الدعوة الى اجتماع طارئ لمجلس الامن القومى الروسي. وكانت مصادر الكرملين اعلنت عقد هذا الاجتماع وسط حشد اعلامى كامل العدد. وبعد ارجاء بداية الاجتماع فى الكرملين لاكثر من مرة، وعلى غير عادة الاقتصار على مشاهد قصيرة لبداية الاجتماع، بثت القنوات التليفزيونية الروسية كلمة الرئيس بوتين التى استعرض فيها جوانب الوضع الراهن وحتى الاعلان عن تحول الجلسة الى طابعها السرى وراء الابواب المغلقة. وكان الرئيس بوتين أعرب فى كلمته التى استهل بها ذلك الاجتماع القلق الذى يساور القيادة الروسية تجاه وحدة اراضى الدولة، وإن حرص على تاكيد عدم وجود أى تهديد عسكرى أو تهديد لسيادة ووحدة أراضى روسيا بشكل مباشر اليوم، وأن التوازن الاستراتيجى للقوى فى العالم هو الضمان لذلك. ومع ذلك فقد اشار البيان الختامى الصادر عن اجتماع المجلس الى وجود بعض عناصر الخطر التى تؤثر على ديناميكية التطور الاقتصادى والاجتماعى ووحدة الفضاء القانونى والاقتصادى واستقرار العلاقات القومية والفيدرالية، وهو ما قد يكون اشارة غير مباشرة الى المخاوف التى تساور البعض تجاه احتمالات تطاول القوات النظامية الاوكرانية على شبه جزيرة القرم التى اعلنتها موسكو جزءا لا يتجزأ من الدولة الروسية بعد استعادتها فى مارس الماضي. ولعل ذلك يمكن ان يكون ايضا تفسيرا لما سارعت القيادة العسكرية الروسية واتخذته من قرارات فى اعقاب هذا الاجتماع حول تعزيز سفن الاسطول الروسى فى البحر الاسود وتطوير المنظومة الدفاعية فى شبه جزيرة القرم. وثمة ما يشير الى ان موسكو بدأت فى اتخاذ المزيد من الاجراءات الاحتياطية تحسبا لاحتمالات تشديد القيادة الاوكرانية لعملياتها العسكرية التنكيلية الرامية الى اخماد انتفاضة الانفصاليين فى جنوب شرق اوكرانيا بالقوة وبسط سيطرتها الكاملة على اراضى جمهوريتى لوجانسك ودونيتسك اللتين اعلنتا استقلالهما من جانب واحد، كمقدمة للانطلاق صوب القرم فى محاولة لاستعادتها حسبما سبق أن توعد الرئيس الاوكرانى بيوتر بوروشينكو، وهو ما يتوقع البعض حدوثه فى سبتمبر المقبل، اى بعد ان تفرغ القوات الاوكرانية من مهمتها فى جنوب شرق اوكرانيا فى اغسطس المقبل حسبما تتوقع القيادات العسكرية الاوكرانية. ولعل ذلك تحديدا ما دفع بعض الخبراء والسياسيين والمراقبين الروس الى التوصية صراحة عبر شاشات التليفزيون الروسى ( برنامج السياسة - القناة الاولي. مساء 23 يوليو) بضرورة تعجل الاعلان عن اعتراف موسكو باستقلال الجمهوريتين، وتعزيز المساعدات العسكرية من اجل دعم صمود مقاتليهما فى مواجهة محاولات الجيش الأوكرانى الرامية الى تصفية المقاومة المسلحة هناك. وعزا المراقبون الروس ما يطرحونه من اقتراحات حول ضرورة الاعتراف بالجمهوريتين، الى نفس ما سبق أن استندت اليه واشنطن وحلفاؤها لدى معالجة ازمة كوسوفو والاعتراف بها، وهو ما قالوا انه يتفق مع ما ينص عليه ميثاق الاممالمتحدة حول حق تقرير المصير. بل ومضى البعض منهم الى ما هو ابعد، حين دعا الى تفعيل بنود النظرية الدفاعية الروسية التى تنص على حق روسيا فى اللجوء الى الضربات الاستباقية فى حال تعرض اراضيها او اى من مواطنيها للخطر. ولعل ما قاله بوتين حول استعداد روسيا للرد على محاولات الناتو تعزيز وجوده العسكرى على مقربة من الحدود الروسية فى بلدان شرق اوروبا، يمكن ان يكون تحذيرا ضمنيا ينسحب على الاطراف الدولية والمحلية، فى ذلك الرئيس الاوكرانى بوروشينكو الذى يواصل التلويح وبإيعاز مباشر من جانب واشنطن، بإصراره على تحرير الاراضى الاوكرانية بالقوة . وكان بوروشينكو اعلن فى منتصف الاسبوع الماضى التعبئة العامة وللمرة الثالثة خلال اقل من شهرين، من اجل حشد المزيد من القوات اللازمة لتحقيق اهدافه. وتقول المصادر الرسمية ان اجتماع مجلس الامن القومى لم يقتصر على بحث جوانب الازمة الاوكرانية والوضع الدولى الراهن، بل وتناول ايضا ضرورة تدعيم نشاط الاجهزة الرسمية للدولة من اجل الحد من تبعية الاقتصاد القومى والمنظومة المالية لأى عناصر خارجية فى اشارة الى ما يمكن ان تتخذه الحكومة الروسية من اجراءات ردا على تزايد العقوبات الاقتصادية التى فرضتها واشنطن وحلفاؤها ضد روسيا فى اعقاب ضم القرم، تضاف الى ما سبق أن احرزه بوتين من نجاح لاستمالة الاصدقاء والحلفاء فى آسيا وامريكا اللاتينية الى جانب الموقف الروسي. ويذكر المراقبون بهذا الصدد ما حققه بوتين من انجازات خلال زيارته الاخيرة الى الصين وما وقعه هناك من اتفاقيات اقتصادية وتجارية واعدة تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، فضلا عما توصل اليه الاسبوع الماضى فى قمة رؤساء بلدان بريكس التى عقدت فى البرازيل. وقد توقف المراقبون المحليون والاجانب عند ما اعرب بوتين عنه فى معرض كلمته التى استهل بها اجتماع مجلس الامن القومي، من قلق تجاه استمرار محاولات التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية لروسيا من خلال اشارته الى سيناريوالثورات الملونة، ومحاولات زعزعة الاوضاع الاجتماعية والسياسية الداخلية التى قال انها تؤثر على البلدان الضعيفة، لكنها لا يمكن ان تؤتى ثمارها او تجدى نفعا مع بلد مثل روسيا لن يسمح مواطنوه بتمرير مثل هذه المخططات. وكان بوتين اعلن ايضا ان مجموعات قوات الناتو تُعزز وجودها في أراضى بلدان شرق أوروبا، وفى مياه البحر الأسود والبلطيق، الى جانب اقتراب منظومة الدرع الصاروخية من الحدود الروسية، وهو ما قال ان بلاده سوف تواجهه بنفس القدر من التكافؤ، ومن اللافت ان الاجتماع الاخير لمجلس الامن القومى الروسى جاء فى أعقاب سلسلة من التصريحات النارية التى صدرت عن مختلف القيادات الامريكيةوالغربية تحذيرا من مغبة انزال المزيد من العقوبات بروسيا وقياداتها السياسية والاقتصادية بل والثقافية والفنية، مما قد يكون ردا غير مباشر على مثل هذه التهديدات. اما عن ملابسات اسقاط الطائرة الماليزية وتعجل بعض الدوائر الغربية باتهام روسيا بذلك، فقد قال باتروشيف سكرتير مجلس الامن القومى ان الاجتماع لم يتناولها، فى الوقت الذى اعترفت فيه مصادر وكالة المخابرات المركزية الامريكية بعدم صحة ما جرى توجيهه من اتهامات بهذا الصدد. وكانت وول ستريت جورنال كتبت تقول حول مدى تقدير بوتين لتصرفات نظيره الامريكى تحت عنوان بوتين يدرك حقيقة حجم اوباما: اذا كان هناك من يعتبر ان اسقاط الطائرة الماليزية بصواريخ روسية سيقلب الامور رأسا على عقب فإنه واهم .. فقد هدد أوباما وتوعد يوم الاثنين، لكن الاتحاد الاوروبى رفض الانصياع لطلب فرض العقوبات ضد روسيا يوم الثلاثاء، ليعود الانفصاليون الذين تسلحهم روسيا الى اسقاط مقاتلتين اوكرانيتين اخريين يوم الاربعاء، فى الوقت الذى تؤكد فيه المخابرات المركزية استمرار امداد روسيا للانفصاليين بالدبابات والصواريخ وغيرها من الاسلحة المعقدة.وخلصت الصحيفة الى استنتاج مفاده ان بوتين ادرك حقيقة اوباما، فلماذا اذن يمكن ان يعير ما يقوله اى اهتمام؟!