السلسلة (أ) تلك التي رأيتها في الأحلام ، يقول ، في الكوابيس ، ويمد يده إلي كوب الشاي الموضوع علي حافة الشرفة ، لم يكن قد نظر إلي المارة ، كان أكسل من ذلك ، لكنه تطلع عبر الضوء الخفيف إلي الراديو الخشبي الذي كان لا يزال محتفظا به في ركن الصالة القصي، علي الرغم من أنه كان يدرك جيدا، ربما أكثر من غيره ، أننا تجاوزنا القرن العشرين ، مع بقية الأشياء القديمة ، كقلم الحبر ، الحبر السائل ، الذي كان يأتي في زجاجات معتمة لها وقارها ، والنشافة الخشب (التي كانت طوال الوقت تذكره بالبطة) وسلسلة اليد، السلسلة الطويلة ، سلسلة المفاتيح ، التي كانت تمرح في يده ، يلفها في الهواء علي إصبعه ، بسرعة ، وهو يمشي مشية المختال بشبابه ، وكان يصفر . لا . ليست هي تلك الأحلام بالكوابيس ، كانت هذه أحلام الشباب التي كانت تغطيها لمسة من الحزن ، آه ، طوال الوقت، لأنه لم يكن قد حدث شيء ، إلا الأسى الذي كانت تحدثه تلك الأشياء، وهي التي جاءت بعدها بالأحلام / الكوابيس ، وفيها السلاسل المظلمة ، تجلجل في العتمة ، حيث القطط الضالة ، والكلاب ، وأولاد الشوارع، وصلصله دوائر الحديد في السلسلة الكبيرة التي كانت تلف ، لا الأيدي وحدها ، بل تلف الروح . «اشتاق لأغنية عاطفية مع فنجان من الشاي» قال . هكذا تؤدي السلسلة إلي التداعي، ولأن روحه كانت « تعي « كل ذلك ،دخل من الصالة إلي الغرفة الكبيرة ، يبحث في صندوق حاجياته عن تلك السلسلة القديمة . فتحه فشم رائحة النفتلين الممزوجة برائحة عطر اللافاندر ، أخرج بيجامته القديمة ، البيجامة الكستور المخططة ، ورائحة العادة السرية ، لا تزال هناك ، علي الرغم من مرور الزمن . ال سل س لة وجد واحدة ،لكنها ليست تلك التي كان يبحث عنها ،كانت هذه صدئة ، في علبة الحلاوة الطحينية الصدئة هي بدورها ، في القاع ، وفكر لو أنه راح في رحلة بحث عن تلك الأخرى ، فربما استغرق ذلك وقتا، لأن مرور الزمن له فعله ، له مساره الذي يضلل أي شخص ، حتى لو كان حكيما ، كل ما في الأمر أن هذا الحكيم سيصبر ، سيواصل البحث ، لكنه تذكر أن شيئا من تلك الأشياء التي أحبها في مطلع شبابه ( كالمطواة التي تنفتح بالضغط ) لم يستطع إيجادها (تذكر الآن طبعته الأثيرة من ألف ليلة وليلة، الطبعة الكاملة بكل ما فيها من فحش ) لم يمكن ، ضياع السلسلة ، إذن ، استثناء ؟ . كان يمشي في شارع البحر ، علي كورنيش النيل ، في مدينته الصغيرة ، حيث تتراص المقاهي، وكان الكورنيش علي هيئة درابزين من خشب شجر الأثل ، وبين كل خمسين مترا شرفة خشبية داخل النيل ، والسلسلة (الشاهد) في يده ، يلفها باختيال ( خاصة حين يلمح فتاته لابسة الصندل الأبيض وهي تنزل في موعد مروره ، تبتسم ، تفتح عينيها باتساعهما وتنظر تجاهه ) ثم تنقلب سحنتها إلي ما يشبه الغضب .وهي التي ، فيما بعد ، ألقت في وجهه بقنبلة مع ضحكة فيها غنج ممزوج بسخرية مرة مرة مرة . لأنها من فتاة ؟ ربما . أم لأنها سخرت من السلسلة ؟ أم لأنه كان يحاول لفت نظرها إليه بهذه الطريقة؟ هل هو أبله ؟ هذا هو بالذات ما جعل الأمر معذبا بعد ذلك :حيث سخونة المشاعر مع الخيلاء والمشية المترفعة مع النظرة التي إلي هناك . كيف؟ هكذا ، تعال إلى الكورنيش وراقب . أنظر إلي ذلك الشاب . والسلسلة في يده . يلفها برشاقة . بخفة . براعة تلفت النظر حقا . ويجلس علي المقهى ، في العصرية ، مع النسيم البارد ، يرشف الشاي بالنعناع ،ومحمد عبد الوهاب يغني : خي ، خي ، حبيبي قاسي ليه يا خي . (ب) لو أنها هي هناك ورأت السلسلة لكان الحلم قد جاءها ولو في المخاض ، لا . ليست أحلام، تقول هي ، وهي تضع اللمسة الأخيرة بفرشاة المكياج علي وجهها المرهق، بل كانت السلسلة هناك دوما . تحس بها حول رقبتها، ربما ، ولهذا السبب ، كانت تهرب من وضع شيء حول رقبتها ، حتى مجرد إيشارب ناعم ، ولم تعلن عن ذلك لأحد ، كان هذا هو سرها الدفين ، وكانت تعجب من أنه يحب التلويح بسلسلته ، كان يختال بها، وهي كانت فعلا معجبة بعينيه العسليتين كما لم تعجب بأي شيء آخر، لكنها كانت تقول ، لو أنه كف عن التلويح بهذه السلسلة ؟ لو أنه أطلق أصابعه وحررها منها ؟ لو أنه صفق بها ، لو لوح لبلوغ السماء دون أن تكون هذه الملعونة هناك بين أصابعه؟ لم يكن يعرف مشاعرها تجاه هذا . لم يكن يحس بذلك . وهي لم تستطع التعبير عن هذا أبدا ، أبدا ، حتى أنها كتبت رسائل ومزقتها ، كتبت الواحدة تلو الأخرى لكنها وجدت الأمر سخيفا ، وأملت أن توقفه الأيام عن هذه العادة المؤلمة ، لم يكن يدرك هذا الجانب ، وتخيل أن كل شيء يمكن أن ينتهي نهاية سعيدة ما دامت تبادله الابتسام ، ما دامت تفتح عينيها بكل اتساعهما حين تراه. هي تفكر في أنه ربما كان يفكر علي هذا النحو ، من هذا المنطلق الذي كان يعذبها من أنها لم تستطع التعبير عن مأساتها غير الواضحة معه . هل يمكنها أن تقول له بأن يكف عن هذه العادة الصبيانية ؟ أن يكف عن شيء يحبه ، كما يبدو من إصراره علي التلويح، التلويح، التلويح، طوال الوقت؟ طوال مروره في الطريق ، طوال وقوفه بعيدا وهو يرقبها من الشرفة . إنها لا تستطيع إنكار أنها كانت تريده، ولربما لم ترد أحدا سواه في هذا العالم، لكنها ماذا تفعل أمام هذا الخوف من أن يتحول حبه للتلويح بالسلسلة إلي التلويح برقبتها هي نفسها ؟ لكن هل في ذلك أي مبالغة وهي تري قصص الحب الكبيرة، القصص التي كتب عنها الشعراء قصائدهم، والروائيون رواياتهم ، وهي تنتهي بمآس رهيبة ، مآس لا يعلم سوي الله نهايتها الفاجعة ؟ هل تقول له أن شرطها الوحيد للمضي قدما في بحر الأحلام أن يلقي بسلسلته في البالوعة ، ألن يتبادر إلي ذهنه عندئذ أنها ستعقب ذلك الشرط بشرط آخر ، وهو ، كرجل شرقي لا يمكنه أن يقبل شروطا من أي فتاة كانت ، وأنه علي استعداد لأن يضع حجرا من الصوان علي قلبه مقابل ألا يرضخ أبدا.