ما إن تتباعد الشمس عن ركن الرحبة القصي في هذا اليوم، حتى تتخذه الخالات مكانًا للاختلاء بابنة الأخت، التي تتأهب لمغادرة بيت أبيها لبيت زوجها، ينتخبن منهن من هي أكبرهن سنًا، وقد يخترن أكثرهن خبرة وجرأة في القول، يبقين صامتات وهي تنصح العروس بما ادخرنه من خبرة توارثنها عن الجدات: «كوني له أمَةً يكن لك عبدًا». ثم يتناسين ما اتفقن عليه من اختيار واحدة للحديث وتندلق النصائح من كل فم: «كوني له أرضًا، يكن لك سماءً» «لا تدعيه يشم منك إلا أطيب ريح» « لا تفشي له سرًا» تستمع العروس بخفر لا يخلو من بقايا اندهاش الطفولة، حتى إذا سَرَّبَ أترابها لها في وقت سابق معلومات كافية عما يقلنه، لأنها تعلم بفطرة أنثوية خالصة، أن إبداء الخجل، والرهبة والوجل، ضروري ومطمئن للأهل في هذا اللقاء، تستدعي انتباهها كله لتسطر ما يقلنه على جدران وعيها كيلا تُقدم بنزق على تصرف قد لا يرضي- في البيت الجديد الذي ستنتقل إليه بعد ساعات معدودات- حماتها أو الزوج المنتظر. يمر الدرس بنجاح وينفضضن من حولها لتجهيز البيت، ومساعدة أم العروس في الاستعداد لليلة الحناء في اليوم التالي، تقوم أخت بإصلاح الأرضية بسبط نخيل جاف، وتزيل أخرى بيوت العنكبوت من أركان السقف بلفافة مجدولة من الليف، وترش الخالة الصغرى الأرضية بالمياه، لتهجج عفاريت الأرض المختبئة تحت الغبار، ثم يتحلقن بعد الانتهاء أمام فوهة الفرن في الحوش. ترص واحدة ألواح البسكويت والكعك على مصطبة الفرن، وتلقم أخرى النار- من فوهة الفرن السفلى- قطعًا متساوية من الحطب. في الظهيرة تحضر الفتيات من الدروب البعيدة والقريبة، ليراجعن الأغنيات التي سوف يرددنها في الليلة التالية: «يا ابو جلابية مزهرة .. يرمح يطير فى المندرة .. جاب لى الدولاب باربع درفات .. يرمح يطير فى المندرة .. جاب لى السرير باربع عواميد .. يرمح يطير فى المندرة» تملأهن الأمنيات بالزواج بمن عشقت أراوحهن، يرين في مساعدة أم العروس فألاً حسنًا، قد يعجل بزواجهن سريعًا، تعودن منذ تبرعمت الأحلام في قلوبهن أن يتجمعن في بيت العروس لتقديم العون، وعيونهن تفيض بالغبطة والفرح. تقدم فتاة كيس حناء هدية لأم العروس، وتقدم أخرى الشموع، ولا يبخلن بمجهودهن لجمع جهاز العروس ورصه في الصناديق، كل شيء في مكانه الصحيح؛ أدوات المطبخ في صندوق وقمصان النوم في آخر. تفاجئهن العروس بنثر ملابسها التى كانت لها فوق رؤوسهن، فتتسارع كل واحدة لاصطياد قطعة، ستكون لها حال الإمساك بها. هكذا تترك العروس لكل واحدة منهن هدية تذكرهن بها، وقبل أن يغادرن يرددن الأغنية التي تكيد الحماة، أي حماة يصادف وجودها وجودهن: «زعلان ليه .. تعالى هاقولك أنت تاخد موزه .. وانا هاخد موزه. ناكل لما نشبع .. ونزحلق أمك» يغنين هذه الأغنية نكاية بكل حماة تغار من زوجة ابنها الجديدة، وترى أن ابنة الغرباء ما جاءت إلا لانتزاع ابنها الذي تعبت في تربيته وسهرت الليالي على راحته. في بيت العريس المنتظر، تتأهب الحماة لاستقبال زوجة ابنها، بفرش أرضية الغرفة الجديدة بالحصر المجدول الملون، وذبح زغاليل الحمام وحشوها بالفريك. تنصب السرير الجديد بمساعدة الأقارب، وتضع عليه المرتبتين المنفوشتين المنجدتين واللحاف ال»ستان» الأحمر. تفعل كل ما عليها لتتفرغ في اليوم التالي لتجهيز عجينة حناء ابنها، وتستقبل ضيوفها في مندرة العائلة. تقبل النقوط من نسوة العائلة والدرب، تحفظ قيمة ما أعطينه لها في ذاكرتها أو تدونه في دفتر، لترده لهن وأكثر منه ليلة حناء أولادهن. أما العريس فيكون في هذه اللحظة وسط أقرانه، يرقصون التحطيب بالعصي ويتركونه يغلبهم، ففي هذا اليوم والأيام التالية، يكون هو مركز الدائرة وبؤرتها. وقبل أن تغرب الشمس، يُحمل العريس على الأكتاف إلى النهر، وسط تهليل العجائز وفرحة الشبان، ليشارك الجميع في رشه بالمياه، وتدليك كتفيه والهمس في أذنه بالنصائح المغطاة حينًا، والمكشوفة حينًا آخر. أما في المساء، بعد أن يسود بيت العروس الهدوء، تحضر الماشطة العجوز الخبيرة، لتجهز العروس كما هو متعارف عليه. تبدأ القيام بمهمتها فورًا وقبل احتساء الشاي بالنعناع، تختلي العجوز بالعروس في غرفتها وتجتزئ قطعة من الحلوى التي تصنعها يدويًا بغلي العسل، حتى يغلظ قوامه، ويصبح قادرًا على القيام بمهمته. ثم تبدأ في جلي جسم العروس من زغبها الناعم والخشن. لا تأبه لتأوهاتها الحقيقية، أو لدلالها الأنثوي الأخاذ. وبمجرد الانتهاء، وقبل أن يبرد جسم العروس تمامًا، تبلل الدلكة بماء الزهر، وتسخنها قليلاً على نار هادئة. الدلكة التي جهزتها سابقًا من مصحون الترمس والردة والأرز المجروش، مضاف إليها قليل من زيت اللوز المر والمسك، وقطرات من عصير الليمون، لتغطي جسمها بالخليط الدافئ، ثم تتركها وقتًا قصيرًا للثرثرة مع من تبقى من النسوة بالخارج، واحتساء مشروبها الذي برد في كوبه تمامًا. حتى تجف الدلكة على جسمها فتعود، لتفركها وتترك جسمها مشمرًا عن نصاعته واحمراره. .................... تذكرت الخالات هذه الطقوس بعد عشرين عامًا بالتمام، وهن يعارضن العروس التي أصبحت بعد مضي الأيام أمًا لعروس أخرى، لمنها وقرعنها لأنها وافقت دون معارضة تذكر على ذهاب ابنتها- العروس الجديد- إلى ما يسمى الكوافير، وتسليم ابنتها إلى آلات تسكنها العفاريت، لتجلي لها جسمها بدلا من الماشطة. ظللن يتفقدن مشدات الملابس الحديدية، والملاقيط الكهربائية مختلفة الأحجام، وصناديق التزين الملونة بعيون فزعة. ولما لم يجد تحذيرهن صدى، وأصرت الأم على إتباع جنوح ابنتها، وإنفاق الأموال بإسفاف، مصمصن شفاههن حسرة على الأيام الفائتة، واكتفين بأن الله كان معهن عندما أرجأ اختراع تلك الأدوات لفتيات هذا الزمان.