أغلب الظن أن السياحة المصرية وصلت هذا الصيف إلى حالة من التدنى فى الأسعار، لم تصل إليها من قبل حتى فى عز حوادث الإرهاب البغيض فى تسعينيات القرن الماضي، رغم أننى أعلم أن هناك مستثمرين كبارا وسلاسل فندقية عالمية كبرى تحافظ على أسعارها المرتفعة.. لكننى أقصد الغالبية من أصحاب الفنادق التى تبيع برخص التراب فقد فوجئت هذا الأسبوع بأحد كبار المستثمرين فى شرم الشيخ، وهو صاحب مجموعة فندقية شهيرة يحكى لنا تليفونيا بانفعال شديد أنه قضى يومه السابق على المكالمة تعسا وفى حالة نفسية سيئة، بل تمنى فى تلك اللحظة لو كان قد عاد به الزمان إلى الوراء ما استثمر أمواله فى عالم الفنادق والسياحة. فبادرته قائلا: ماذا حدث؟ أجاب: تصور جاء لى أحد منظمى الرحلات الأجانب الكبار من أوروبا يطلب منى التعاقد هذا الصيف على أن يكون سعر الفرد فى الغرفة فى الليلة للإقامة الشاملة (نوم + 3 وجبات إفطار وغداء وعشاء + مشروبات بمختلف أنواعها) بمبلغ 20 دولارا فقط فى فندق 5 نجوم مع ما يتمتع به الفندق من خدمات عالية الجودة من حمامات سباحة وناد صحى ورياضة وغير ذلك. قلت: وماذا فعلت؟ أجاب: فورا قلت لهذا الأجنبي: أرجوك حديثنا انتهي.. إننى سأقفل الفندق أفضل.. وأصررت على عدم التفاوض.. هل هذا معقول؟ إن هذا تدمير لمقومات الفندق، كما أن هذه الأسعار تدمير للسياحة المصرية ومواردها ومقوماتها الطبيعية.. حرام أن تباع مصر سياحيا بهذه الأسعار المخزية.. إنك لا يمكن أن تجد غرفة حتى لو كنت ضمن مجموعة فى دبى أو بيروت ولا نقول فرنسا وإسبانيا بفندق 5 نجوم بأقل من 200 دولار أو 300 دولار أو أحيانا 500 دولار، مع أن مصر بكل ما تملكه من مقومات سياحية يجب أن تباع أفضل من ذلك بكثير. الغريب، أننى كنت قد تلقيت مكالمة أخرى من صاحب فندق 4 نجوم فى الغردقة يشتكى من أن الفنادق ال5 نجوم تبيع الإقامة الشاملة بهذه الأسعار المتدنية، بل تبيع بأقل من 20 دولارا، ووصلت فى بعض الأحيان أو الأماكن إلى 15 دولارا.. ويقول: إن هذا لا يترك فرصة للعيش للفنادق 4 و3 نجوم، وبالتالى لا تجد أمامها مفرا من البيع 10 و12 دولارا أو 15 دولارا للإقامة الشاملة (نوم وشرب وأكل 3 وجبات).. وذلك لتقليل خسائرها والوفاء بالحد الأدنى من التزاماتها.. فالعملية خسرانة.. خسرانة كما يقولون فى تبريرهم لهذه الأسعار. وهنا نقول إن قضية تدنى أسعار السياحة أصبحت حديث القطاع، بل أصبح السكوت عنها جريمة فى حق الوطن، وإهدارا لموارد الدولة ومقوماتها، لأن العائد فى هذه الحالة من السياحة لا يساوى شيئا أو لا يساوى حتى الإهلاك والهدر فى البنية الأساسية والفندقية المصرية. نعم.. نحن نتفهم أن ملاك الفنادق مرتبطون بقروض مع البنوك، وعليهم أقساط، وملتزمون بتسديد التزامات لا ترحم من أجهزة الدولة (كهرباء ومياه وغيرهما)، وكذلك رواتب العاملين، ومصاريف التشغيل.. لكن ليس معنى ذلك أن يستسلموا لمنظمى الرحلات الأجانب.. لابد أن يقاوموا هذا التدنى فى الأسعار ويرفضوه.. لأن الارتفاع بالأسعار مرة أخرى صعب ويستغرق سنوات.. فالنزول سهل.. لكن الصعود صعب. إننا ندعو المستثمرين وأصحاب الفنادق من كل مدينة أو منطقة سياحية للاتفاق على (ميثاق شرف) بعدم النزول بالحد الأدنى للأسعار، بمعنى أن يتم تحديد حد أدنى لكل درجة فندقية، وأن تتعاون وزارة السياحة مع غرفة الفنادق وشركات السياحة فى وضع هذا الحد الأدني، الذى يمكن على أساسه أن يتم محاسبة الفنادق على عدم الالتزام من خلال الضرائب أو خلافه بأى وسيلة، بحيث لا ينزل الفندق عن سعر محدد، وإلا دفع من جيبه التزاماته للدولة. إن ضعف الطلب لا يعنى النزول بالأسعار إلى هذا المستوى المتدني.. وبالله عليكم كيف يسمع المصريون عن هذه الأسعار للأجانب، ويدفعون هم فى الغرفة ألفا وألفين وثلاثة آلاف.. وللأسف دون غداء أو عشاء، فقط للغرفة بالإفطار؟.. فهل هذا معقول؟.. هناك فرق فى عملية البيع للأجنبى ولشركات السياحة أو المجموعات غير الزبون المصرى الفردي، ولكن ليس لهذا الحد، خاصة أن القرار الذى كان يقضى بالبيع ب50% للمصريين قد تم إلغاؤه، وهذا قرار سليم، لأنه يجب ألا يكون هناك تمييز للمصريين عن الأجانب أو حتى للعرب برفع السعر عن الأجانب والمصريين. إن قضية تدنى الأسعار يمكن أن تواجهها كل مدينة سياحية، بل يمكن أن تواجهها مصر كلها وتحاربها بقوة.. وهناك تجارب لدول نجحت فى ذلك. على سبيل المثال.. حكى لى الخبير السياحى المرحوم د. صلاح عبدالوهاب، عن أن جزيرة »كريت« اليونانية كانت قد واجهت مثل هذا التدنى فى الأسعار فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى عندما ضغط عليها منظمو الرحلات الألمان ونزلوا بالأسعار جدا.. فما كان من أصحاب الفنادق بالجزيرة وبمساندة المسئولين هناك وتحديدا فى 1996، إلا الاتفاق جميعا على عدم التعاقد مع الشركات الألمانية طوال هذا العام..بعدها وفى عام 1997، عاد الألمان بأسعار مقبولة بعد أن رضخوا للتفاوض، لأن هناك مصالح مشتركة للجانبين. هل نحن أقل من أهل جزيرة »كريت«، أم أننا نهوى الضرب تحت الحزام فى بعضنا البعض واستغلال الفرص لمصالح شخصية. إن هذه التجربة يمكن أن يحتذى بها ولا نقول نقلدها.. فقط نتفق على حد أدنى للأسعار فى كل مدينة ولكل سوق على حدة، وعلى من لا يلتزم يتم اتخاذ الإجراءات ضده، ومن السهل معرفة ذلك من التعاقدات، ومن خلال تفعيل قوانين تنظيم المنافسة ومنع الاحتكار.. فى نفس الوقت على كل مدينة وهى تضع الحد الأدنى للأسعار مثل (شرم الشيخ أو الغردقة) أن تبتكر أساليب جديدة للتسويق بشكل جماعي، وأن يكون التسويق قطاعيا أو جغرافيا، ويحدد عوامل الجذب فيها، بحيث يمكن انتشال الأسعار من هذا التدنى المضر للاقتصاد القومي، وهناك تجارب ناجحة فى التسويق لرجال أعمال كبار فى شرم الشيخ يمكن الاستفادة منها. إذا استمر هذا التدنى فى الأسعار لا نملك إلا أن نقول: «واحسرتاه على الغرف السياحية ووزارة السياحة التى لا تفعل شيئا فى هذه القضية.. واحسرتاه على السياحة المصرية». لمزيد من مقالات مصطفى النجار