صرح متحدث باسم الجيش الإسرائيلى بأن الهجوم البرى على غزة لا يستهدف الإطاحة بحركة حماس التى تهيمن على القطاع!!.. هذا التصريح غير مستغرب من الجيش الإسرائيلي، الذى يتحرك بأوامر من نيتانياهو، فكل القيادات السياسية فى إسرائيل معنية ببقاء حماس واستمرارها فى السجن الكبير المسمى قطاع غزة، فسلطة حماس هذه أى اليمين الفلسطينى الذى لا يبحث عن تسوية هى أفضل شريك لليمين الإسرائيلى الحاكم فى إسرائيل، والذى لا يبحث عن تسوية هو الآخر، وبعبارة أخري، فاليمين الإسرائيلى يبحث عن يمين فلسطينى لكى يقول للعالم إنه لا يوجد شريك فى الطرف الآخر.. لقد كانت خطة الانسحاب من غزة التى رسمت ونفذت فى عهد حكومة شارون خطوة استراتيجية بهدف الوصول إلى غايات أخري، ومن الضرورى العودة إلى أقوال الذين بادروا إلى وضع تلك الخطة لكى نفهم الهدف الذى وضعوه نصب أعينهم من تفكيك المستوطنات والانسحاب من غزة، فها هو دوف فايسجلاس الذى شغل منصب كبير المستشارين لإرييل شارون يكشف فى مقابلة صحفية فى «هاآرتس» عن مكنونات تفكيره: (إن معنى خطة الانفصال هو تجميد عملية السلام بصورة شرعية)، وليس هذا فحسب، بل ويضيف: (عندما تقوم بتجميد العملية السياسية، فإنك تمنع إقامة دولة فلسطينية، وتمنع الحديث والمفاوضات فى شئون اللاجئين، والحدود، والقدس،.. فالحقيقة كل هذه الأزمة المسماة الدولة الفلسطينية سقطت من جدول أعمالنا لفترة غير محدودة زمنيا.. إن هذه الخطة تمنحنا كمية الفورمالين المطلوبة لتجميد العملية السياسية مع الفلسطينيين).. فماذا أنجزت إسرائيل فى عملية الجرف الصامد؟.. بالطبع تمكن رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو من فك عزلته محليا ودوليا، وحشد الكونجرس الأمريكى وراءه، وكذلك الرأى العام الأمريكى الذى ينحاز تلقائيا لمصلحة إسرائيل، عندما ينطلق صاروخ واحد باتجاهها، أما الرأى العام الأوروبى فيتعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، لكن الحكومات الأوروبية تقف ضد حماس وهى تطلق صواريخها، إلا أن إسرائيل تبقى فى حاجة إلى حماس مهما ادعت أنها عدوها اللدود، فحماس باتت بالنسبة إلى إسرائيل الصمام الأمنى الذى يمنع وصول التنظيمات الأكثر تطرفا من أمثال داعش إلى غزة، وليس سرا أن الاتصالات المباشرة بين إسرائيل وحماس وقعت تكرارا، حماس من جهتها قدمت ذخيرة إلى حكومة نيتانياهو وإلى قوى اليمين المتطرف الإسرائيلى بشقه السياسى والاستيطانى و العسكري، فمن جهة تدرك حماس أن اليمين الإسرائيلى يحتاجها متطرفة جدا، ويريد لها النمو فى التطرف لتكون له الذريعة الجاهزة لتبرير مشاريعه الديموجرافية، أى التهجير القسرى للفلسطينيين من داخل إسرائيل والضفة وغزة تنفيذا لمشروع الأردن الوطن البديل. ومن جهة أخري، تلبى حماس متطلبات ذلك المشروع بعشوائية وهى تعتقد أنها تتحداه ولعل فى وسع حماس أن تزعم أنها أنجزت عودة لها على الساحة الإعلامية الدولية وفى الذهن العربى الذى يستيقظ لدى مشاهدة البطش الإسرائيلى بالمدنيين الأبرياء، ولعلها ترى أن إطلاقها الصواريخ على إسرائيل يشكل عنفوانا وجبروتا ومقاومة، ولكن المشكلة أن رهانها على العاطفة العربية التلقائية رهان خاطئ، فقد صار واضحا للجميع أنه لم يعد هناك إجماع على خطاب المقاومة، ولم تعد الغالبية تقبل ممارسات حماس بغير تساؤل، ولم تعد صواريخ القسام تبهر جميع المراقبين العرب. لقد صار الناس يتساءلون: ما جدوى إضاءة سماء تل أبيب إذا كان الثمن مئات القتلى ودك أرض غزة؟ ما جدوى إخافة العدو الإسرائيلى إذا كانت الكلفة هى قتل المواطن الفلسطينى وتدمير منزله ومسجده ومدرسته ومستشفاه؟. وفى حين يرى بعض العرب أن هذه التساؤلات صحيحة وتبعدنا عن شبح الصوت الواحد وتفتح آفاقا للتفكير والتحليل، فإن أصحاب الخطاب المقاوم يرون فيها العار والخيانة والانبطاح والتمييع للقضية. إن مصر لا تريد لإسرائيل أن تنجح فى رمى قطاع غزة فى حضنها، ولا تريد لحماس أن تنجح فى فرض فتح معبر رفح عليها لتستغله لإحراج مصر وجرها إلى إجراءات لا تريد القيام بها.. لقد رفضت حماس والجهاد الإسلامى المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار وما سوف يتبعه من استقبال الوفود الإسرائيلية والفلسطينية للبحث فى المطالب الأوسع من متطلبات الهدنة الدائمة إلى فك الحصار والخناق الاقتصادى عن غزة، أى مصير العلاقة بين قطاع غزة والضفة الغربية، والسبب هو أن حماس أرادت ألا تضع الكرة فى الملعب المصرى الذى لا تثق به، وألا يكون الرئيس المصرى صانع التفاهمات، فأرادت أن تساوم علينا من أجل فتح معبر رفح، ولعلها نسقت مع تركياوقطر قبل إعلان رفضها المبادرة. فكلاهما شاطرها الرغبة بقطع الطريق على ألا ينسب لمصر ورئيسها رعاية وقف إطلاق النار، والتوسط فى المسألة الفلسطينية الإسرائيلية.. الغريب أن هناك أنباء عن مبادرة جديدة تحمل نفس الخطوط العريضة للمبادرة المصرية تتبناها الآن قطر، وتركيا، وبالطبع سوف توافق عليها حماس. المحصلة أن غزة تدفع الثمن كالعادة، وها هى عرضة للانتقام الإسرائيلى وتلقين الدروس بدماء أبنائها، بينما قيادتها تتبنى جدلا بلا استراتيجية خروج واضحة. د. عماد إسماعيل