قليلون من كتاب المسرح أحدثوا ثورة حقيقية في الأدب المسرحي لتسطر إبداعاتهم بداية لتيارات جديدة تمثل نقلات جبارة في تقنيات عالم المسرح الذي يوصف بحق بأنه أبو الفنون. وبين هؤلاء القليلين يأتي الألماني برتولد بريخت في مرتبة متقدمه بوصفه أول من هدم الجدار الرابع, وهو الجدار الوهمي الذي يقف بين الجمهور وخشبة المسرح. ففي10 فبراير, أي منذ ثلاثة أيام, حلت الذكري114 لرحيل الشاعر المسرحي برتولد بريخت الذي ولد عام1898 في مدينة أوجسبورج الألمانية. ودرس الطب في ميونيخ, وهناك عمل في مسرح كارل فالنتين. وفي عام1922 حصل بريخت علي جائزة' كلايست' عن أول أعماله المسرحية. وفي عام1924 ذهب إلي برلين, حيث عمل مخرجا مسرحيا. وهناك أخرج العديد من مسرحياته. وتزوج عام1929 من الممثلة هلينا فايجل. وتعد حياة بريخت- في حد ذاتها-عملا مسرحيا مثيرا تنبض أحداثه بالتمرد علي المألوف والهروب المستمر ويشكل عام1933 بداية لأولي فصول هذا التمرد ففي هذا العام استولي الزعيم النازي أودلف هتلر علي السلطة في ألمانيا مما دفع بريخت للهرب إلي الدانمارك. ثم هرب مرة اخري عام1941 من الدانمارك للفرار من وجه القوات الألمانية التي كانت تتوغل في أوروبا, وتحتل كل يوم بلدا جديدا, وانتهي به المطاف في سانتا مونيكا في كاليفورنيا, وهناك قابل العديد من المهاجرين الألمان الذين فروا من الدولة الهتلرية, التي بدأت تمارس القهر والاغتيالات ضد المعارضين, وتفرض اضطهادا لا حدود له ضد اليهود, وتحرق كتب الأدباء الذين لا ترضي عنهم, وكانت كتب بريخت من بين الكتب التي أحرقت نظرا لميوله اليسارية التي كانت تحاربها ألمانيا النازية. وهناك في الولاياتالمتحدة شعر بعزلة شديدة, حيث لم تعره الحياة الثقافية الأمريكية اهتماما يذكر. وفي خاتمة المطاف, وفي العام1947, اتهمته لجنة مراقبة النشاطات المناهضة لأمريكا بالشيوعية, وذلك أيام المكارثية الشهيرة, ليعود في العام التالي1948 إلي وطنه ألمانيا وقت تمزقه عقب الحرب العالمية الثانيه إلي دولتين. ولكن لم يسمح له بدخول ألمانياالغربية, فذهب إلي ألمانياالشرقية, حيث تولي هناك في برلينالشرقية إدارة المسرح الألماني. ثم أسس في عام1949' مسرح برلينر إنسامبل'( فرقة برلين). وتولي عام1953 رئاسة نادي القلم الألماني. وحصل عام1954 علي جائزة ستالين للسلام. وقد أثر مسرح برلينر إنسامبل علي المسرح الألماني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية, وظل بريخت يعمل في هذا المسرح حتي وفاته في عام.1956 تأثير عالمي ويعد برتولد بريخت بحق أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في المسرح العالمي, فلقد تعدت شهرته حدود ألمانيا لتصل إلي كافة أنحاء العالم, حتي يمكن القول إن معظم الحركات المسرحية الحديثة خرجت من عباءته وعكست وبالذات فكرته عن المسرح الملحمي كمقابل للمسرح الدرامي المعتاد. وسعي بريخت من خلال هذا اللون المسرحي إلي أن يخلق جمهورا يستطيع التفاعل مع الأحداث ليتحرر من دوره كمشاهد سلبي. وتطبع السياسة معظم أعمال بريخت المسرحية, حيث كان لكتابات ماركس وهيجل التحليلية بالغ الأثر عليه, فحاول خلال مسيرته الفنية مخاطبة أكبر عدد من الجمهور, لإقناعهم بأهمية تحرير أدوات إنتاجهم من سيطرة رأس المال وأولي مسرحياته التي لاقت نجاحا كبيرا هي أوبرا الثلاثة بنسات, حيث تضمنت المسرحية نقدا لاذعا لأوضاع النظام البرجوازي أيام جمهورية فايمر. وكان من الطريف أن تلقي المسرحية هذا النجاح والإعجاب من قبل من تعمد بريخت انتقادهم. ويصنف عدد من كبار النقاد مسرحية أوبرا الثلاثة بنسات علي أنها واحدة من أمهات الأعمال في المسرح الحديث, ويندر أن يوجد مسرح في العالم لم يقدم صياغة لها بشكل من الأشكال. وبرغم الطابع السياسي لأعمال بريخت فقد نجت هذه الأعمال من الفجاجة والمباشرة التي تعيب عادة المسرحيات السياسية, فكان ينأي بنفسه عن الأيديولوجيا في أعماله, ولم يعرف عنه القيام بتعليقات مباشرة صادمة. وتسعي مسرحيات بريخت الملحمية إلي تحفيز الجمهور علي إمعان التفكير حتي يكون وعيا خاصا به تجاه ما يراه, وذلك علي العكس من المسرح الدرامي أو الأرسطي حيث يكتفي الجمهور بدور المتابع السلبي. كما تمتد أفكار المسرح الملحمي إلي دور الممثل علي خشبة المسرح, ومحاولة تغيير طابع وظيفة الممثل من مؤد إلي عنصر إيجابي في المسرحية, حيث كان بريخت يدعو ممثليه إلي جعل قدر من المسافة بينهم وبين النصوص واتخاذ مواقف نقدية منها أثناء أدائها وليس فقط تكرارها بشكل ميكانيكي. تقنيات بريخت المذهله والسؤال الأهم الآن.. كيف فاجأ بريخت العالم بهذا الإبداع المختلف تماما عن كل ما سبقه؟ والواقع إن الإجابة تكمن في تقنيات هذا المفكر والأديب المسرحي العملاق. ومن أهم تقنياته في الكتابة المسرحية ما اتفق النقاد علي تسميته هدم الجدار الرابع, والذي يقصد به جعل المشاهد مشاركا في العمل المسرحي, واعتباره العنصر الأهم في المسرحية. والجدار الرابع معناه أن خشبة المسرح التي يقف عليها الممثلون, ويقومون بأدوارهم, تشبه غرفة من ثلاثة جدران, والجدار الرابع هو جدار وهمي أو شفاف- يتابع من خلاله الجمهور سلبيا ما يحدث في الغرفة تحت وهم أنه يحدث في الواقع, وهو ما يسمي في الدراما ب الإيهام. أما ثانية هذه التقنيات فهي التغريب, الذي يقصد به الابتعاد بالحدث نفسه عن الحياة اليومية, واستخدام تقنيات الحدوتة التراثية واللعبة المسرحية التي يدعي المتفرج للمشاركة فيها ولو بعقله, ولا يكتفي بالفرجة السلبية. كما يبرع بريخت في مسرحه في المزج الدقيق بين الوعظ والتسلية, أو بين التحريض السياسي وبين السخرية الكوميدية,كما يستخدم ببراعة مماثله تقنية تداخل الازمنةعبر استخدامه لمشاهد متفرقة, حيث تتكون بعض مسرحياته من مشاهد متفرقة, تقع أحداثها في أزمنة مختلفة, ولا يربط بينها غير الخيط العام للمسرحية. كما في مسرحية الخوف والبؤس في الرايخ الثالث.1938 فقد كتبها في مشاهد متفرقة تصب كلها في وصف الوضع العام لألمانيا في عهد هتلر. إضافة إلي ذلك استخدم بريخت أغنيات بين المشاهد وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية. ولا يقدم بريخت طبقا لمنهجه- إجابات جاهزة, ففي نهاية مسرحيته الإنسان الطيب في ستشوان يقول بريخت:' نقف هنا مصدومين, نشاهد بتأثر الستارة وهي تغلق وما زالت كل الأسئلة مطروحة للإجابات' وفي مسرحية حياة جاليليو التي كتبها عام1943 في مهجره في الدانمارك, تدور الأحداث حول عالم الفيزياء الإيطالي جاليليو, الذي يتراجع أمام سلطة الكنيسة, ويتخلي عن إنجازاته وأعماله العظيمة خوفا من التعذيب والحرق. وترمز هذه المسرحية إلي وضع العلماء الألمان بعد تولي هتلر السلطة في ألمانيا, وتقول إحدي شخصياتها مقولة صارت مشهورة: ويل لأمة في حاجة إلي بطل.