ينتظر البعض أن يرى فنا يليق بمصر بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو وكأن الثورة تخلق مباشرة فنا يعبر عنها أو ان الثورات في العالم كله تأتي لتغير الواقع وتُنشئ بالضرورة فنا جديدا. لو تابعت الأفلام الروائية والمسلسلات الدرامية التي تناولت ثورة 25 يناير لاكتشفت أنها ولدت مبتسرة فخرجت مشوهة للناس ولم تنجح في سبر أغوار روح الثورة، تعاملت مع السطح وليس العمق، وذلك لأن الواقع لا يزال حتى الآن يكشف عن تفاصيل جديدة، ما تصورنا في لحظات أنه حقيقة اكتشفنا أن هناك وقائع أخرى تُكذبه ولا يمكن أن تبني الفيلم السينمائى أو المسلسل الدرامي على وثائق أو أحداث مشكوك في صحتها، الموقف يتكرر بعد ثورة 30 يونيو والتى عبرت عنها بعدها بساعات الأغاني ورددها الناس، بينما لا تزال الدراما بعيدة عن هضمها ناهيك عن إفرازها في عمل فنى . انتظر الناس في البيت العربي والمصري أن يروا 30 يونيو في مسلسلات رمضان 2014، متجاهلين أن المبدع يحتاج الى فترة حضانة للفكرة أو الحدث حتى يختمر بداخله ويتشكل رؤية إبداعية، لم يعثر مشاهدو المائدة الرمضانية هذا الموسم سوى على قليل من ثورة يناير شذرات تتناثر هنا وهناك عما حدث بعد ثورة «اللوتس» مثل مسلسلي « تفاحة أدم» و« إمبراطورية مين»، بينما ما احتل الجزء الاكبر المائدة الدرامية، أعمال تتناول الكثير مما هو مسكوت عنه، مثل مسلسلات «سجن النساء» و«السبع وصايا» و«ابن حلال»، قطاع من المشاهدين اعتبروها تحمل تجاوزا أو في الحدود الدنيا لا يجوز أن يُسمح بتداولها في شهر رمضان ،البعض على الجانب اعتبرها على العكس تحاول أن تقفز فوق سور الممنوعات لتصل الى ما يجري في المجتمع ،ولكننا في العادة نتغافل عنه ونعتبر أن إلقاء الضوء عليه يحمل إدانة أخلاقية لنا، وهكذا تفرقت السبل وتناقضت زوايا الرؤية، وفي الحالتين احتلت تلك المسلسلات النسبة الأكبر من كثافة المشاهدة. هل من الممكن أن نصل الى منطقة آمنة لا نجد فيها هذا التناحر بين صوت يناضل من أجل حماية حرية الابداع ويعتبره خطا أحمر و صوت على الجانب الآخر يعلو مطالبا بحماية المجتمع من شطحات الفن والفنانين؟ حيث يري أن الخطر الحقيقي الذي يهدد أمن الاسرة يبدأ باختراق الخط الأحمر . هناك مطالبة في أكثر من بيان من خلال مؤسسات ومجالس قومية تُمهد للدولة كُل سُبل التدخل لتعاود أداء الدور الأبوى ,ان تتولى هي الاختيار في ما يجوز عرضه أو مصادرته، هل لا نزال نعيش في زمن يمنح الدولة إمكانية السيطرة بالمنع ؟ بعد أن صار «النت» يصل الى كل بيت وأسقط سُلطة الدولة في الحجب، لدينا مؤخرا نموذج فيلم «حلاوة روح» الذي رفعته الدولة من دور العرض قبل أشهر قليلة فأصبح خلال ساعات هو الاكثر تداولا على مواقع التواصل الاجتماعي، الدولة لا تستطيع سوى فقط أن تواجه ما تراه رديئا بدعم ما تشعر بأنه جيد ،عليها أن تُسهم في تهيئة المناخ الصحي لتقديم قوة دفع للفن الجيد. البعض يرنو الى فن أقرب الى «الكارت بوستال» الذي يُجمل الحياة ويجعل الواقع كاذبا بإبعاد كل ماهو سلبي عن الصورة ، وكأن غض الطرف عن قُبح الحياة يجعل الواقع جميلا، لتصبح معركتنا ليست محاربة الواقع الردئ ولكن مطاردة الفن الذي يقدم هذه الرداءة . صرنا دائما نواجه هذا السؤال عن هذه الالفاظ والمواقف الدرامية التى باتت توجد بمساحة كبيرة، حيث نرى العديد من الاحداث تجري في بيت دعارة و قواد وامرأة تبيع شرفها، الصوت المحافظ يشعر بأنه لا يليق تقديم هذه المشاهد ليس فقط في الشهر الكريم ولكن طوال العام ، وهكذا ارى القضية، جزء كبير من المجتمع غاضب ويحمل الفن سبب تردي الواقع ، بينما الارقام في دُنيا الواقع تشير الى أن معدلات التحرش في مصر حققت أرقاما قياسية على مستوي العالم وتزداد المواجهة سخونة كلما توغلنا أكثر في المسلسلات بعد أن اقتربنا من الأسبوع الاخير في رمضان . لو تأملت الموقف نظريا ستجد أننا في تاريخ الدراما عالميا لا نُقدم الشخصيات الايجابية إلا فيما ندر وان الشخصيات السلبية والمدانة اخلاقيا هى التى تحتل المساحة الاكبر ،ومن البديهي أن يتكرر هذا الامر في الدراما المصرية . يوما ما سألت مخرج الروائع حسن الامام الذي اشتهر بتقديم اشهر وانجح الافلام الجماهيرية في مصر وأيضا كان يقدم حياة الراقصات في افلام مثل بديعة مصابني وببا عز الدين وامتثال زكي وغيرهن، قلت للاستاذ حسن: لماذا لا أري في رصيدك أفلاما عن هدي شعراوي وسيزانبراوي وسميرة موسى وغيرهن، فأجابني مخرجنا الكبير هل في حياة هدى شعراوي نكتة او رقصة أو غنوة، ربما الامر ليس بهذه البساطة التى عبر بها حسن الامام ولكن لاشك أن قسطا لا بأس به من مسلسلات رمضان توقفت عند العالم المتوحش والمنفلت والغوغائي، لى تحفظات على العديد من المسلسلات التي أراها تُسهب في تقديم بعض تلك المشاهد، اعتراضي لا يستند الى زاوية أخلاقية كما يحلو للبعض وصفها ولكن برؤية فنية تستند الى علم الجمال ونقيضه القبح. نعم هناك ما يمكن أن نطلق عليه إسرافا أو مشاهد مجانية ولكن الطريق الى مواجهتها يأتي فقط من خلال تقديم مقال نقدي وليس بإشهار أو استدعاء وتحفيز قوة الدولة على المصادرة، لم يعد من الممكن ان نشرع هذا السلاح الذي انتهي عمره الافتراضى قبل قرابة عقدين من الزمان مع الانتشار الفضائى، علينا أن نسعى لكي نزيد وعي الناس في الاختيار، الفن الجيد لديه قدرة على إزاحة الردئ ،وبالمناسبة ليس المقصود بالجيد هو الخالى من أي مشاهد جريئة الذي أطلقوا عليه في السينما المصرية قبل سنوات «أفلاما نظيفة» كما أن على الجانب الآخر فإن الردئ ليس هو الذي يتضمن تلك المشاهد ، الفيصل هو اسلوب التناول . لا نريد فنا معقما يشعرنا وكأننا نعيش في المدينة الفاضلة، ولا فنا ينزع عن أبطاله ورقة التوت ، الفن هو ما نرى فيه الحياة بحلوها ومرها ، بنبلها وتوحشها، لا يمكن أن نبدد الطاقة في مطاردة الصورة الدرامية مهما بلغ قبحها ونترك القبح ماثلا أمامنا في الحياة.