أزعم أن أحدا منا لم يكن بمنأي, علي الصعيد الوجداني أو المادي, عما يدور علي ارض مصر علي مدي عام كامل,وما أسفر عنه عدد من الأحداث الأخيرة من تداعيات وأزمات وصلت لحد التخوين ومحاولة بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد. . وتقسيمهم طبقا للموقع الجغرافي علي مستوي المحافظة بل والحي, وشيطنة كل فريق أو جبهة للطرف المعارض لتوجهاتها و قناعتها. ومما لاشك فيه أن كل تلك الأحداث قد حظيت بقراءات وتحليلات سياسية وتغطية إعلامية مكثفة, ومع ذلك, أظن, أن أيا منها لم يقدم إجابات شافية سواء علي مستوي اللاعبين الفاعلين والمحركين للمشهد, أو الأغلبية المفعول بها التي لا تزال تراقب المشهد وتتنازعها مشاعر متباينة نتيجة لغياب إجابات قاطعة لأسئلة محيرة حول عدد من المفاهيم التي تبدو للوهلة الأولي متناقضة. فمع سقوط رأس الحكم في مصر وإزاحة حوارييه طفا علي السطح عدد من المفاهيم التي تم تغييبها عن العقل المصري لسنوات لأن مجرد التفكير فيها كان يساوي حق الاختيار والمراجعة والتعرف علي الذات, وبالتالي اتخاذ موقف والفعل. وبين تلك المفاهيم حدود حرية الفرد والحفاظ علي حرمة جسده وروحه وكرامته الإنسانية في مقابل عدم انتهاك حرية وكرامة الآخر أو التعدي علي منظومة القيم التي يتبناها المجتمع, أو الفرق بين مراجعة منظومة القيم الحاكمة للفرد والمجتمع ومفهوم السلطة والقانون وحرية الحوار وتعددية الرؤي والقراءة النقدية الموضوعية للواقع المجتمعي,و بين التطرف في الإدانة والرفض لكل ما يتصور أنه ينتمي للماضي سواء علي مستوي الفرد أو المؤسسات, وبالتالي انتهاك أطر العمل والقوانين, ومحاولات بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد وإذكاء الصراع بين الأجيال ونفي كل فريق للطرف الآخر. وفي ظني أن غياب أو اختزال التعريفات الدالة والمحددة للمفاهيم السابقة وتقاطعاتها( مثل ضمان حرية الفرد دون انتهاك فكرة القانون أو هدم منظومة الدولة) هو أحد أسباب حالة الالتباس و المشاعر المتناقضة التي تنتاب المواطن العادي تجاه ما يدور علي الأرض و تباين ردود الفعل تجاه الحدث الواحد, وبالتالي ضبابية المواقف سواء علي المستوي الفردي أو العام. وربما نجد تشخيصا أوضح لحالة فوضي و عشوائية المفاهيم والمشاعر التي عاشها المجتمع المصري علي مستوي النخبة والشارع لسنوات, و أظن أننا نعيش اليوم تداعياتها, إذا ما رجعنا لتوصيف المجدد عبدالرحمن الكواكبي للأثر السلبي للخضوع للنظم الاستبدادية لفترات طويلة. يقول الكواكبي الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان, فيسوق الناس إلي اعتقاد أن طالب الحق فاجر, وتارك حقه مطيع, والمشتكي المتظلم مفسد والنبيه المدقق ملحد و الخامل المسكين صالح أمين. ويصبح كذلك النصح فضولا, والغيرة عداوة و الشهامة عتوا والحمية حماقة و الرحمة مرضا.كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحيل كياسة و الدناءة لطف و النذالة دماثة. . عند هذا الحدأتصور أنه ربما يكون من المفيد أن نحاول أن نقرأ المشهد من منظور مختلف يضعه في سياقات أرحب من تلك التي تفرضها الأحداث المتسارعة, وأعني بها قراءة ثقافية نستعين فيها بأدبيات العلوم الإنسانية وأحداث التاريخ و التحليل الثقافي والأعمال الأدبية التي تناولت الثورات وما أعقبها من تحولات علي كل الأصعدة. فبإطلالة سريعة علي عدد من الأعمال الأدبية العالمية التي تناولت الثورات التي شكلت منعطفا تاريخيا في روسيا و فرنسا مثل روايات فولتير وتولستوي وقصة مدينتين لديكنز, وعلي الأعمال الروائية المصرية التي حاول من خلالها الكتاب المصريون رصد التحولات الاجتماعية عقب ثورة يوليو52( وأقربها إلي ذهني وربما أشهرها بالنسبة للقاريء السمان والخريف و ميرامار نجيب محفوظ) تطالعنا صور و مشاهد تكاد تتطابق مع ما نراه اليوم علي أرض الواقع. فالقاسم المشترك و المتكرر عقب الثورات كما ظهر في معظم الأعمال الأدبية, سواء انشغلت بالهم العام أو الخاص, ظهور حالة من السيولة و محاولة البحث عن هوية أو اصطناعها و تأكيدها والبحث عن رمز للالتفاف حوله.وتصاعد الرغبة في الانتقام( ولو من الذات في حالة عيسي الدباغ أو الآخر في قصة مدينتين) وتأمين مساحة آمنة في النظام الجديد وادعاء الانقطاع عن الماضي والتنصل منه ولو ظاهريا أو ادعاء بطولات كاذبة سواء من قبل أركان النظام الذي سقط أو من يحاولون الاستفادة من النظام الجديد. فمن ينسي الشعارات والانتهازية والاهتراء النفسي الذي تجسد في شخصية يوسف بطل رائعة فتحي غانم الرجل الذي فقد ظله أو انتهازية وفساد رجل الاتحاد الاشتراكي وعجز وازدواجية المناضل القديم وطنطنة الإقطاعي بشعارات مزيفة لا تمت لقناعته بصلة في ميرامار محفوظ!! وإذا ما يممنا وجهنا صوب التاريخ الحديث فستطالعنا ثورات شباب أوروبا في ستينات القرن الماضي التي قوضت السلطة الأبوية وأفرزت عددا من التيارات الفكرية التي لم يقتصر تأثيرها علي الفنون المرئية والأدب, فامتدت لتغير ملامح المجتمعات الأوروبية. في هذا السياق تشير د. منار عمر أستاذ الأدب الألماني بجامعة حلوان( وصاحبة دراسة رموز الثورات, التي عقدت فيها مقارنة بين التونسي البو عزيزي والمصري خالد سعيد والشاب الألماني الذي لقي مصرعه في تظاهرات ألمانيا عام68) إلي حالة التوحد حول رمز, التي استشعرها شباب ألمانيا في الستينيات وشباب مصر وتونس في العام الماضي, نتيجة تعرض هؤلاء الشباب غير المصنفين سياسيا للظلم من قبل السلطة التنفيذية للدولة, وهو ما كان يتعرض له المواطن العادي في ألمانيا وتونس ومصر آنذاك, بالتالي كان الالتفاف حول الرمز واندلاع الثورة.و تضيف قائلة إن ثورة68 في ألمانيا رفضت المنظومة التي مثلها جيل الآباء ممن عاشوا زمن هتلر وأداروا المؤسسات طبقا للهياكل القديمة التراتبية, التي فقدت مصداقيتها بالنسبة لهم. وفي هذا السياق تطرفت بعض التيارات لأقصي حد, فأزاحت قيادات و قوضت سلطة الأسرة وشهدت ألمانيا متغيرات اجتماعية, كان للبعض منها نتائج سلبية, وبالتالي تمت مراجعتها في مرحلة لاحقة. وتستطرد قائلة في الحالة المصرية نجد أنه بعد الثورة وانهيار القيود التي كانت تمنع ظهور التعددية يحاول كل فريق أن يعبر عن هويته بنبرة عالية وأن يصنع حدودا تفصله عن هوية الآخر, وهنا تتعدد الرموز والنماذج ومحاولة نفي وشيطنة النماذج الأخري. ومثلما حدثت عملية المراجعات بعد ثورة68 في ألمانيا, من الممكن أن ننتقل في مصر لمرحلة تتكشف فيها تقاطعات الهوية والأرضية المشتركة بين أبناء الوطن الواحد وإن بقيت دوائر مغلقة لا يمكن أن تتقاطع و لابد أن نقبلها ونحترمها في ظل فكرة التعددية القائمة علي التوافق المجتمعي و التشريع الذي يضمن حق الأضعف قبل الأقوي. فإذا ما انتقلنا لأدبيات علوم الاتصال والنفس والاجتماع, فستطالعنا حقيقة أن المعلومة أو الصورة عندما تنتقل من طرف لآخر تتعرض للتشويش, وأنه بالرغم من تعدد مصادر المعلومة, فإن القناعة الشخصية وطبيعة تكوين الفرد تتفاعل مع المعطيات المتاحة, مما يؤدي لتعدد الرؤي حول المشهد الواحد أو الفكرة نفسها, وهو ما ينطبق أيضا علي تحليل النص الأدبي الذي تتعدد طرق قراءته ولا يمكن أن نتعامل مع أي منها بمنطق أن أحدها سليم والآخر خطأ. والآن وبعد هذه المحاولة السريعة لقراءة المشهد المصري من المنظور الثقافي وعبر استرجاع حقائق التاريخ وخبرات الثورات السابقة والتأكد أننا علي أبواب مرحلة جديدة أهم سماتها التعددية علي جميع المستويات وتأكيد الهوية, يصبح السؤال الملح هل نتعلم من تجارب الماضي وخبرات الثورات الماضية لنتجاوز العثرات والمواقف باهظة التكاليف أم أننا سنسير علي الدروب القديمة نفسها,بحلوها ومرها, وكأننا لا نتعلم من التجربة أو أن الزمن تجمد؟!.. سؤال تجيب عنه الأيام القادمة. :ge.gro.marha@ahieless