منذ أكثر قليلا من العام، وتحديدا في 4 يوليو 2013، كتبت مقالا بالإنجليزية على موقع أهرام أون لاين استعرضت فيه لمحات من التاريخ الفعلي، لا الأسطوري، للديمقراطية الغربية. وكان الغرب وقتها، حكومات وإعلاما، في فورة من الدفاع عن «شرعية الصندوق» في بلادنا. القصة الأسطورية للديمقراطية الغربية تجعل منها نتاجا خصوصيا متفردا لما يسمى ب»الحضارة الغربية»، وتحققا لخصائص جوهرية لهذه «الحضارة» تعود إلى «طفولتها» في اليونان القديمة، بل وإلى عبارة مقتضبة منسوبة للسيد المسيح بأن «يعطى ما لقيصر لقيصر»، وينسب لها علمانية وعقلانية «الحضارة الغربية» رغم 1500 سنة من الحكم الديني والاضطهاد الديني والحروب الدينية. ليس مجالنا هنا التوقف طويلا عند خرافة الطفولة اليونانية للغرب، أو عند صياغة العرب كسعاة بريد للتاريخ، جل دورهم هو نقل رسالة اليونان القديمة لأوروبا «عصر النهضة»، ولن نتوقف طويلا بالتالي عند ما أنطوى عليه هذا من إنكار فادح في تزويره للتاريخ الفعلي لدور العرب في نقل وتصدير تقاليد الفكر والفلسفة العقلانية لأوروبا الحديثة. ما يهمنا من الأسطورة هنا هو ذلك التصور الشائع شيوعا هائلا بأن الديمقراطية الحديثة منتوج رأسمالي صرف، أساسها المادي هو ما يسمى بالطبقة الوسطى، وإنها محض تَحقق للفكرة الليبرالية في كل من الاقتصاد والسياسة، حيث حرية السوق المفترضة، وما يترتب عليها افتراضا من حرية الفرد في الاختيار العاقل بين سلع متعددة معروضة، يقابلها في المجال السياسي حرية الأفراد في الاختيار بين الأفكار والسياسات والأحزاب. فالصندوق الانتخابي وفقا لهذا التصور ليس أكثر من سوبر ماركت سياسي. عقيدة الاختيار العقلاني الحر في السوق الحر مثلها مثل توأمها السياسي: أسطورة دينية الطابع قوامها الإيمان وليس الاختبار الواقعي، كمثل حرية المواطن الأمريكي على سبيل المثال في الاختيار بين بيبسي وكوكاكولا في السوق، والحزبان الديمقراطي والجمهوري في السياسة، وللكاتب الأمريكي جور فيدال تعليقا طريفا على «حرية» الشعب الأمريكي في الاختيار بين حزبيه الكبيرين، فيصف النسر الأمريكي ك «طائر بجناحين يمينيين». كما تخفي الأسطورة حقيقة صيرورة الديمقراطية في الغرب كما في غيره من بقاع العالم. في المقال المشار إليه أعلاه ذكرت الرئيس الإمريكي باراك أوباما بأنه لم يكن ليحلم بمكانه في المكتب البيضاوي لو لم يكن لنضال طويل ومرير خاضه الأمريكيون السود، وتضحيات هائلة بذلوها ... في الشارع وليس من خلال الصندوق. كما ذكرت بالميلاد الصاخب شديد العنف للديمقراطية الغربية وبالنضالات المتواصلة، في الشارع، وعبر قرنين ونيف من الزمان، لكسر احتكار الرأسماليين للمجال السياسي الرسمي، ولم يكن في البدء أكثر من ناد يقتصر على رجالهم. الاقتراع العام في كل مكان نتاج نضالات الفقراء والكادحين ونقابات العمال في الشارع، حق المرأة في الاقتراع فضلا عن القدرة على ممارسته لم يكن ليكتسب بغير نضالات مستعرة تواصلت من بدايات القرن العشرين حتى قرب نهايته، في الشارع أيضا، وبدورها لم تكن السيدة هيلاري كلينتون لتحلم بالوصول إلى البيت الأبيض لو لم يكن لهذه النضالات «غير المشروعة». بل وثمة مفارقة كبرى ماثلة في حقيقة أن العصر الذهبي للديمقراطية الرأسمالية الغربية في الخمسينيات والستينيات كان صنيعة خالصة للنقابات والأحزاب العمالية، فضلا عن تأثيرات تحدي الفكرة الاشتراكية ونضالات التحرر الوطني في العالم الثالث. نكرر: في كل مكان، الديمقراطية صناعة الفقراء. ولكن للمسألة أبعادا أخرى، فحين يقتحم الكادحون المجال السياسي مرة تلو الأخرى فهم لا يوسعون نطاقه ويعمقون طابعه الديمقراطي فحسب، ولكنهم يعيدون تربية الطبقة الرأسمالية الحاكمة، يجبرونها على اللعب بقواعد جديدة ويعيدون صياغة وعيها واختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يضمن لها مواصلة الهيمنة على الدولة والمجتمع. غير أن الحرب خدعة كما يقولون، وهي هكذا في المجال الاجتماعي الداخلي كما في التفاعلات بين الدول. فكل توسيع وتعميق للديمقراطية هو تضييق على «حرية» الرأسماليين في تعظيم نصيبهم من فائض القيمة الاجتماعي، وفي إدارة شئون البلاد والعباد وفقما يشاءون، فلحظة التراجع هي نفسها لحظة الالتفاف من أجل محاصرة المكاسب الديمقراطية وإعادة تقييدها، باقتناص رموزها وشعاراتها وتفريغها من مضمونها في أحيان وبالثورة المضادة والبونابرتية والفاشية في أحيان أخرى. إشاعة مناخ الخوف والرهبة، باستعمال الصدمات والكوارث الطبيعية والبشرية (الإرهاب)، فضلا عن تغذية مشاعر كراهية آخر ما، محلي أو خارجي، على أسس عرقية أو طائفية أو سياسية، هي بدورها من الأدوات المفضلة للرأسمالية لمحاصرة المكاسب الديمقراطية وردها، وذلك كما بينت الكاتبة والناشطة الكندية ناعومي كلاين في كتابها المهم «عقيدة الصدمة». ولعل النموذج الأبرز لهذا هو «الفرصة السانحة» التي وجدها جورج بوش الابن وبطانته من المحافظين الجدد في صدمة 11 سبتمبر لشن حرب ضارية على الديمقراطية على الصعيدين العالمي والمحلي، بهدف تكريس الهيمنة الاستعمارية الأمريكية على العالم لقرن جديد، وإسكات الشعب الأمريكي نفسه عن مقاومة الفجوة المروعة والمتزايدة طرديا بين الثراء غير المحدود لمجتمع الواحد في المائة وبين فقر وعوز متنام في أغنى بلاد العالم. في هذه الحلقة الأخيرة من مقالات ثلاث عن «رأسماليتنا والديمقراطية» تحدثت عن الرأسمالية والديمقراطية عموما ولم أتطرق لرأسماليتنا المصرية تخصيصا. غير أن القارئ اللبيب بالإشارة يفهم. لمزيد من مقالات هانى شكرالله