يحتفظ جيلى بنبض لحظات العزة، وان كانت ممزوجة بالألم، وأحيانا بالدموع، خلال سنوات حرب الاستنزاف المجيدة. وتابعت مع غيرى كيف اندلعت حرب ضروس ضد كل ما تمثله فى الضمير والوجد، حرب الاستنزاف، التى أثق فى أنها ستأخذ يوما حقها فى تاريخ الوطن، لتغييبها واسدال ستار النسيان الكثيف عليها. فهدف الأعداء ان يفقد المصريون ثقتهم فى قدرتهم على مواجهة التحديات، وأن يترسخ لديهم احساس بالدونية، وأن يقنعوا بدور يحدد اطاره ومساحة الحركة فيه هؤلاء الأعداء، ومن ثم كان لا بد من تشويه الحقائق وطمس البطولات ومحو الذاكرة الوطنية.. والغريب اننا لا نجد، مثلا أى سيرة أو حتى ذكر لأحد أبطال حرب الاستنزاف أو أكتوبر فى المناهج الدراسية كقدوة ومثال للتضحية بالنفس فى سبيل الوطن والدفاع عنه، بل تركت الدولة الملعب تماما ليصول ويجول فيه من جاهروا بأن «الوطن ليس أكثر من حفنة من التراب العفن» وأفردنا المساحات الاعلامية الواسعة لفصيل «طظ فى مصر وأنا ما يهمنيش واحد ماليزى يحكمنى ما دام مسلم». دأبت الأقوال والأقلام والأفلام ،على تصوير هزيمة 67 العسكرية وكأن مصر هى الدولة الوحيدة التى هُزمت على مر التاريخ، وكأن التاريخ المعاصر لم يسجل أن دولا، منها المانيا وفرنسا واليابان وغيرها قد ذاقت مرارة الهزيمة، مع ذلك لم تتعرض لمثل ما تعرضت له مصر التى حملها أعداء الداخل والخارج وزر ما جري، دونما أدنى إشارة إلى اسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية واتباعهما فى المنطقة وفى العالم وكأننا نحن الذين قمنا بالعدوان على القوى الصهيونية فى فلسطينالمحتلة.. ومازلت اذكر ما قرأته يوما من أن وزير خارجية اسرائيل، طلب من نظيره الأمريكى أن يبلغ بعض دول المنطقة، شكر اسرائيل لمساعدتهم إياها فى تحطيم عبد الناصر. كما أذكر ما قاله رجل مخابرات اسرائيلى فى أوائل التسعينيات، بعد مصرع 13 عسكريا من القوات الخاصة فى جنوبلبنان، وردا على شكوك البعض بان المخابرات الاسرائيلية مخترقة من حزب الله ، بأن اسرائيل تعانى نفس ما كان يعتريها من هواجس، إبان حرب الاستنزاف بانها مخترقة، من قبل المخابرات المصرية، لأن حرب الاستنزاف كانت «أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها اسرائيل ضد العرب». وبعد أن عاد جمال عبد الناصر يطل عليهم من ميدان التحرير، بل ومن كل ميادين مصر، وصوره مرفوعة بأيدى ثوار يناير مرة وثوار يونيو مرة أخري، تلبستهم حمى الذعر من الصحوة المصرية التى مزقت مشروع الشرق الأوسط «الكبير» من المنظور الأمريكي، أى المفتت الى أكبر عدد ممكن من الدويلات العرقية والطائفية، فعادت نغمة «خطورة العنتريات التى دفعنا ثمنا غاليا لها» وضرورة البقاء فى الحظيرة الأمريكية التى قزمت مصر الى ما لم يستطع شعبها تحمله.. ومن تجليات الحرب المستمرة على الذاكرة الوطنية، مسلسل «صديق العمر» الذى لم يأل جهدا لتلويث اسم عبد الناصر، أو تشويه تاريخه، إلا واستخدمها. أذكر بأن الراحل ممدوح الليثى كاتب قصة المسلسل هو من فتح باب الهجوم «الفني» المنهجى المنظم على الحقبة الناصرية بفيلم الكرنك، الذى رفض الفنان الفارس أحمد مظهر الاشتراك فيه ،كما أورد الناقد والكاتب الكبير الراحل رجاء النقاش، فى حواره الطويل مع ملك الرواية العربية نجيب محفوظ الذى اعترف للنقاش بأن «الكرنك» هى القصة الوحيدة التى لم يعشها ولكنه «سمعها». المهم، أن كل المتربصين بمصر أصيبوا بفزع من ثورة يونيو وعادوا الى سلاحهم الوحيد المتاح وهو الافتراء والكذب والمغالطات لخلط الأوراق وبث اليأس والاحباط ،فى أرض، ظنوها ممهدة، بعد اقصاء أى ذكر لبطولات هذا الشعب، وبشكل خاص بطولات حرب الاستنزاف التى يجب أن يتم تدريس فصولها للتلاميذ، واطلاعهم على تاريخ عريق وعظيم فى التصدى لكل من أراد سوءا بمصر على مر العصور، وليس مثل حرب الاستنزاف وبطولات من خاضوها وصمود الشعب خلف قيادته، مثال يرسخ الانتماء الوطنى لدى الأجيال القادمة، ويزيد اللحمة بين القيادة السياسية والمواطنين، وهذا أمضى الأسلحة وأكثرها فاعلية فى مواجهة أية مخططات معادية،كما انه الوصفة السحرية لبناء مصر الجديدة، حيث سبق أن كنا نبنى السد العالى فى ظل القصف الاسرائيلى ونحن نغني، والله زمان يا سلاحي، الذى كان نشيدنا الوطنى وسيأتى يوم يعرف فيه الجميع، لماذا تغير؟ لمزيد من مقالات فريدة الشوباشى