يروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى ذات مرة شابا يصلى ولكنه يتماوت فيصلاته أى يبالغ فى تقبيض قسمات وجهه وإحناء رأسه و تكميش جسده و تهوين صوته فقال له و هو يصيح فيه غاضبا: «لا تمت علينا ديننا . أماتك الله إن الخشوع لا يزيد على ما فى القلب» كان الفاروق يعرف الدين المعرفة الصحيحة و يؤمن بأنه دين إيجابية و حيوية و فاعلية لا دين انكماش و لا دين رياء و تظاهر بالتعبد دون أن تكون هناك دوافع حقيقية للعمل فالعبرة فى العمل بالنية الصادقة الدافعة إليه كما قال النبى عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ...» والذين يحاولون إماتة الدين فريقان متضادان فى الظاهر متشابهان فى الحقيقة فأما الفريق الأول فهم الذين يمثلهم هذا الشاب الذى أدبه ابن الخطاب فهؤلاء يبالغون فى التظاهر بالتدين ويأتون فى عبادتهم بما ليس له أصل فى الدين و كثير منهم يركبون مطية الدين من أجل مآرب شخصية أو طائفية وأما الفريق الآخر الذى يدعى العقلانية و يستتر وراء حرية الرأى والنقد رافعا شعار التنوير فيتناول ثوابت الدين بالمناقشة و التفنيد مجاهرا بذلك على الملأ فى مقالات مطولة أو كتب مفصلة أو ندوات و محاضرات يحيط به فيها شباب لم يتأصلوا فى الدراسة الدينية و بعضهم قد عصفت بعقولهم الحوادث الجارية فهم فى اضطراب من أمرهم لا يعرفون مبتدأ دينهم من منتهاه ولا أصوله من فروعه. فيأتيهم هذا الذى ظنوا أنه مفكر عميق التفكير أو أديب لا يشق له غبار فيرد من الدين ما لا يقبله هواه و يؤول نصوصه بما يعارض ما جاء الدين من أجله دون التزام بقواعد التأويل و تناسى هؤلاء أن للدين ثوابت وعقائد أساسية لا يكون الدين دينا إلا بها. صحيح أن الدين الإسلامى يدعو للاحتكام الى العقل والى التفكير المستقل ، بل إن «التفكير فريضة إسلامية» و لكن هذا التفكير له ثلاثة مواضع. فالموضع الأول يطالب به الإنسان قبل الدخول فى الدين والموضع الثانى يطالب به الفقهاء عند الاجتهاد بآرائهم فيما سكتت عنه النصوص من الوقائع النازلة والموضع الثالث فى فهم النصوص نفسها. فنحن نفهم النص بالعقل و نؤول ما لا يقبله العقل فى الظاهر إلى ما يقبله بحسب قواعد التأويل ومعرفة المجاز من الحقيقة فى الألفاظ. فلا يعقل أن يسلم الإنسان مقتنعا بمحض تفكيره المستقل بأن محمدا رسول الله ثم يعود متشككا أو منكرا العقائد الأساسية التى يدعوه النبى إلى اعتقادها، فالمنطقى أن يسلم بهذه الأساسيات تبعا لتسليمه الأول بنبوة النبى و صدق دعواه. فليس من سلامة التفكير أن يدعو من يقول إنه مسلم ألى التشكيك فى الأساسيات فيقول أحدهم إن القرآن منتج ثقافى وإننا نملك حق النسخ والتبديل بعد انقضاء زمن الوحى أو أن العبادة أو العبودية لإله متعال مباين للعالم مفهوم يجب أن يزول لأن كلمة «العبد» لغويا معناها: «الإنسان» فهى كالعلم المحض لا تعنى ألوهية و لا عبودية. أو كما نشرت مجلة نقدية معروفة لأحد النقاد مقالا عن الحداثة فى الشعر يصرح فيه بأن الهوس بمبدأ الوحدانية هو الذى جعل النقاد القدماء يبحثون فى الشعر عن المعنى الواحد للبيت الشعرى و عن بيت القصيد وكما يصرحون بالقطيعة المعرفية مع الماضى والتراث أو تدمير القداسة و المقدس أو إنكار مبدأ المعلوم من الدين بالضرورة. هؤلاء الكتاب لا يميزون بين الدين والفلسفة ويأخذون من التنوير اتجاها دوجماطيقيا أحادى التفكير متجاهلين الاتجاه التنويرى الأصيل فى الفكر الغربى الذى لا يعارض أوليات الدين . الآفة الكبرى ناشئة من التعصب الذى يحمله أدعياء التنوير ومن الخلط بين الدين والفلسفة. فليس الفلاسفة: «أفلاطون» و«أرسطو» و«ديكارت» و«كانط» مثل الأنبياء: «إبراهيم» و «موسي» و«عيسي» و«محمد» عليهم الصلاة و السلام و لا تلامذة أولئك مثل أصحاب هؤلاء و حوارييهم. وقد كان امام الفلسفة الوضعية «أوجست كونت» على خطأ شديد حينما أراد أن يصنع دينا عقليا بحتا بناء على قواعده الوضعية الاجتماعية ونظريته المعروفة عن مراحل تطور العقل البشري. ففشل لأنه لم يجد لهذا الدين المصنوع من يتبعه. الدين الإسلامى «معقول» بمعنى أن العقل يفهمه و أن النقل والعقل يتطابقان فيه و لكنه ليس «عقليا» بمعنى أن مصدره ليس العقل البشرى كدين «أوجست كونت». ففى الدين جانب غائم وهو الغيب الذى يعجز العقل عن إدراكه و لكنه لا يرى وجها لاستحالته. فلابد فى الدين من الإيمان بالغيب والشهادة معا فإذا لم نؤمن بالغيب فلا دين و إذا حاولت أن تجعل الغيب واقعا ماديا مشهودا كما فعل «كونت» فقد أبطلت الدين من أساسه فنحن كما نرفض التفكير الأحادى الذى وقع فيه شباب التطرف الديني، نرفض أيضا هذه البلبلة وهذا التشكيك فى عقائد الدين الأساسية. وهؤلاء بنشر آرائهم فى مصر يساعدون على التطرف الدينى لأنهم يخرجون عن حد الاعتدال فكل تطرف من ناحية لابد أن يقابله تطرف من ناحية أخري. ومن هنا يجب أن يكون المسئولون عن الثقافة المصرية على وعى ويقظة وأن يكونوا متوافقين مع الروح المصرية فى اعتدالها و لست أتهم أحدا بعينه و لكنى أنبه الى أن من يتصدى لحمل مسئولية الثقافة العامة يجب أن يكون محايدا فعليه أن ينظر إلى جميع الآراء والاتجاهات نظرة متوازنة فنحن مقبلون على عهد جديد نحتاج فيه إلى ثقافة الاستقرار و الى عزيمة العمل وإلى تشجيع الخطاب الدينى الوسطى الذى يدفع الى الايجابية حتى تتقلص تلك الخطابات المشوهة التى أساءت الى الوطن. ودور الأزهر فى هذا الواجب هو الذى تعلق عليه الآمال فالقدرة على اصلاح الخطاب الدينى بيده وحده والقدرة على نشر الثقافة الاسلامية الايجابية لن تتحقق إلا من داخله و بأيدى علمائه و ابنائه. كلية الدراسات العربية والإسلامية - الأزهر لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل