كنا نمشى على ضفة النيل وضفتى ترعة (الشنهورية) فى ليالى مدينة قنا القمرية، نطلق العقيرة منشدين أشعاره، وخاصه قصائد ديوانه الصغير الرقيق (أين المفر؟)، كان صوت أمل دنقل بحشرجته الموحية يطغى على صوتى، فأصمت فهُما فى النهاية (لبعض)، فهذا شاعر فصحى، وشاعرنا المهول (محمود حسن إسماعيل) الذى كنا ننشد أشعاره شاعر فصحى أيضا، وأنا ما سوى إلا ضيف عليهما.. كانت هذه الفكرة بالذات تعطى (أمل) شرعيته فى الصياح الذى طالما اعتقد أنه شدو فأصمت. هذا شاعر عظيم سيئ الحظ، فلقد أصدر ديوانه (الملك) قبل قيام الثورة بقليل، ولذلك صُنف على أنه شاعر نظام قديم، واستغل المنافسون والمنافقون مأزقه وحاولوا إثارة الغبار على تجربته الشعرية الرائعة، ولم يقدروا أن الرجل سار على درب القدماء، الذين قسموا أغراض الشعر إلى فخر وحماسة وغزل ووصف ورثاء، ومن ضمن تلك الأغراض كان المديح، فمدح مثلهم وقامت الثورة ولم يستطع التنصل من فعلته أو إدانتها. حين قدمت إلى القاهرة مغرما به، نهرنى الأصدقاء ولطخوا لى الصورة وكأنه كان يجب أن ألغى ميراث الرجل وتجديده الشعرى، وعظمة أن يكتب ديوانا للكوخ فى بلادنا فى زمن كان شعراؤه يكتبون عن القصر. ولربما ألهمتنى تجربة الرجل ومأزقه ومعاناته الفكرية فيما بعد أن أبتعد عن هذه المزالق حتى لو وقعت فى هوى الحكام. علاقة طويلة عريضة لم ألتق شاعرنا خلالها، فكان الحب من الطرف الواحد. أصبح الرجل عضوا فى لجنة نصوص الأغانى بالإذاعة، وهو منصب انحدر من بعده ليتولاه من يطلقون على أنفسهم شعراء، كان يشاركه فى المنصب الشاعر أحمد رامى، وكان عمنا فاروق شوشة مقرر اللجنة وثالثها، تواترت نصوصى الغنائية أمام الرجل، فطلب من الأستاذ الشجاعى رئيس الموسيقى والغناء بالإذاعة أن يرانى، وكانت المرة الأولى أيضا للقائى بالشاعر الكبير فاروق شوشة، سأل الرجل عن قريتى، وهل أعرفه، فأنشدته شيئا من شعره، كان كث اللحية، وجهه ليس متناسقا، وكأن (الداية) شدته من رأسه فاستطال الوجه.. إلخ. يوم تحويل مجرى النيل بعد ازاحة السد الترابى، كنت فى أسوان أستكمل تجربتى مع السد وحراجى القط، عرفت أنه سوف يلقى قصيدة ليلا أمام عبدالناصر وخروتشوف، سألت حتى عرفت أنه يقيم بغرفة بسفينة راسية على شاطئ أسوان. إكتريت قاربا لصديق مراكبى، وتحت السفينة رحت أهتف باسمه حتى أطل علىّ بجلباب أبيض مندهشا: (مين؟)، قلت: (أنا فلان، انزل)، قال: (كيف أنزل يا مجنون؟)، أطل من خلفه الروائى (محمد جلال) وكان سكرتير مجلة الإذاعة فى ذلك الوقت على ما أظن، قلت بوقاحة: (انزل شوف النهر الذى كتبت عنه دون أن تعرفه). انطلق بنا القارب فى نيل أسوان الخرافى بين الجنادل التى نقش الفراعنة عليها التواريخ بالرسوم وبيوت النوبيين والجنوبيين على التلال المنزلقة إلى النهر، ولم يكن هناك وقت للولوج إلى معبد (فيلة)، فوقفنا من القارب نرقب. فى طريق العودة عاتبنى: (كيف لم يعرف النهر؟)، قلت: (إن نيل «النخيلة» و»أبنود» الذى كتب عنه ليس له سحر نهر أسوان العالمى، على الرغم من أن تحفته «النهر الخالد» تظل تناطح كل ما كتب عن النيل فى الفصحى، ولكن له الفضل فى أنه أول من عبر عن الضفاف والكوخ وأكثر شعراء جيلي إحساسا بالنهر ومعرفة به). ربما كان فاروق شوشة أكثر من رآه منا ب(وجوهه السبعة)، كما كان يصفه (إن للرجل وجها مغايرا فى كل ساعة). وفى ذكرى رحيل مبكرة رثاه أمل دنقل معبرا عن محبته وامتنانه العميق للرجل. أما قصيدتى هذه (تفاحة آدم)، فقد كنت أكتبها وزوجتى فى المستشفى انتظارا لمولد ابنتنا نور (8/7/1994)، كانت فى غرفة العمليات وأنا قابض على قصيدتى خوفا من فرار اللحظة، غضبت الممرضات من ذلك الذى يكتب متجاهلا زوجته مع د. محمد فياض فى غرفة العمليات، وربما كان الصديق جمال الغيطانى شاهدا على المشهد حين مر بالمستشفى ليلتقط القصيدة وكان يعلم أن زوجتى بغرفة العمليات. إذاً فابنتى (نور) عمرها من عمر (تفاحة آدم) رحم الله شاعرنا الفذ عمنا: (محمود حسن إسماعيل). الأبنودى
مهداة لوالدنا الراحل الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل فى ذكرى مولده ال 94 آدم.. نزل للدنيا صيف أو شتا؟ من جنة زاهية مزهزهة مُلْفِتة لدنيا صامتة.. مُصمتة.. مُنصتة آدم.. نزل للدنيا.. عارى البدن صرخ فى وش الحياة صرخة طويلة.. رفيعة.. متلتة التلت كان احتجاج.. والتلْت كان خوف من ولوج الزمن وتالت الأتلات كإنَّه.. آه مبصر عِمى لما نظر للشمس أعمى وفتح فى حلول الظلام نسى السمع والمشافهة والشموم واللمس إيديه تشوّح زى ما تدب صدر رجيله ترفّص زى ما تدق باب محنى.. كإن الحياة اتقلّبت بين الهجير والبرد وميلت عوده لجهة الأرض وكأن راسه زرعة لسة منبتة. وبألفته للوحشة والمعاناه عرفت طريق مغناه والآه.. زى الأرض كانت بكر والأرض كانت بكر زى الآه
لما استدار واتفرَط ومشى على الأشواك وداس على الزلط. آدم عرف دا اليوم إن الغلط فى الصح والصح فى الغلط وان الخروج م الجنة.. مش عبط!!..
حيثِ النخيل بيميل بقوس الضهر وكإنه راكع فى صلاة العصر والنيل.. شق أغمَقّ طمى ودم كان الغُنا بالضد والذكريات بتشد.. صعدت «أغانى الكوخ» من صمتك المشروخ والريح بتعوى فى الفضا المقصوص والنهر فايت من هنا مخصوص وإنت.. شارد فى السَّموم والبرد الريح بتعوى وماشى مش مهتم وسط المديح والذم إلا بتحقيق لانفصال بالوجد
حافى القدم.. زاهد عربيد عنيد بيوحد الواحد عصرت خمرك من ظلال الشجر ومن نسيم السحَر ومن شبوب الأرض نحو القمر فى نشيدك الصاعد مداح وعاشق صبّ أدمن صبر عاشق ظلال الليل وصوت النهر والنهر كان له صوت قبل الزمن ما يموت قبل الأسامى ما تكتسى ألوان قبل الأسامى ما تترسم بالنيون وتهج م الإعلان!!
مداح وعاشق صبّ أدمن صبر زى البيوت والناس.. وزى إيد الناس.. تنعم بحكّ الكفوف فى زحمة التراحيل وزى طُرح الثكالى ودَمْعياتْ اليتم ورقصة الأسرجة فى عتمة القناديل وكل ما عشناه هناك على ضفاف النيل.. في «بُكرة» وأصيل.
ساكن عبر فى البوص يلمس طروف الخوص حيث النخيل بيميل بقوس الضهر وكإنه ساجد فى صلاة العصر!!
بكت الجزيرة حين قلت لها: وداعا لن أعود وتأوه العشب الجميل وولولت فيه العهود لا تتركينى عازفا أرد الضفاف بغير ناى.
ومع الفقارى قعدت تقسم رغيف وتقرا أورادك وإحنا أولادك وتمد إيد بالشاى صوتك جميل غَنَّاى واتولدت الدنيا وماتت.. ريف!!
يا عاصر الخمر تحت النهر والضفة للشعر دَابِحْ ورايح حامل القربان فى عِزّم الدنيا ليل والموجودات خايفة والعشق مغلول ومحروم حتى م الحرمان والنهر مربوط بحبل الغِلّ وقيوده وكل ما فى الوجود باحث على وجوده على الربابة بالصوت يفتح طريق للموت لقْح النخيل والعنب طاير لعنقوده!!
الكلمتين.. هم المتاع فى الزهد والكلمتين هم رفيق البعد وجمرتين الطريق وصرختين الغريق ودمعتين البرىء وصفحتين الأرض والأديان.
كان الطريق واعر ياعمنا الشاعر دخلتها حافى بلا متاع وتركتها واضح بلا قناع الرحلة فى النار لا تتأجر ولا تتباع والهم هم.. تقيل والا خفيف!!
صُر الهُموم طرْف توبك وأعقد المنديل وامسح خُطَى الزاهدين.. من لَعْنِةِ التوحيل عمرك ما فلت الهّم ماله تقيل أوقُلْت ما سمعناش. فى الضل جالسِ تحتسِى التواريخ شيوخنا.. صعب تْشِيخ. فى العُوزة ماوْقفناش رميت بقايا الكاس فى جوف النيل وقمت أدَّنت لْصلاة الشعر.
إيه يعلن القبر اللى بلا شاهد لِلِّى اتولد والد؟؟ ولاحَدّ علّمنا الحواشى الشوك والقبر.. كيف مظلم.. وكيف بارد!!
يميل نخيل«النخيلة» فى الغروب..عالدُّور والشمس.. حامْية الليلة من غير نور. ماحدّعلمنا صُغْر السِّنّ من كُبْرهُ ولا حدّ.. يعزِمْ فى ساعْة الموت على قبْره نشيل معانا المجد والسقوط واللّى فتلناه من حبال وخيوط يوم الحساب يمكِن.. بيسألوا المعذور عن عُزْرُه: حِفْىِ الحُفاه.. له تمن طول السجود.. له تمن كتْم الدموع،، له تمن حُسْنِ الختام.. لُهْ سِعر!!
كان القمر مصبوغ وانت بتتوسل بأى ّبْزُوغ وبأىّ بوّابه فى أى دروب فارسْ بِزَانة.. والسِّباق مَنْصُوب والليل فى عز الليل والنور بخيل الكفْ كُنّا فى أول جيل وآخر جيل ساعِةْ مامال الجرْف وفى الشروق الغروب وفى مسامِر لائْتِناس بالقمر وتحت ضِلّ الشَّدْو والسَّهَر مالت رياح الخمْر بالمثّال إتزحلق الأزْمِيل على الحَجر وعوَّر التمثال.
ساعةْ ما رنّ الجرس نِسِى..وِحَرَنِ الفرَس الدُّنيا صابها الخرَس فى كبوِةِ الخيَّال.. لما الغُبار انحسر والضل مال وانكسر فضلّ وحيد شارد عارى الكتاف عارى الكتاب مَدْمُوغ لا الريح تجاوب سؤال ولا بتمسح أثر. وبيسبقك للقمة آخْر الصف واتمنَّع المطر (أين المفرّ!؟) جبل القلوب الرُّخام أول وآخر البشر وشيخنا «ديك الجنّ» وسْط الضجيج بيئن. ما تنسمع أنّات بلا وتر ولا تِنْشَعِل نار إلاّ من حجر.
وقدّ ما استفحلت فى دمِّنا الطعنة عرفنا إن الشعر مش مهنة وقد ما بيستوجب التقديس.. بيوْجب اللعنة.....!!
نَتْعذّبوها طول ماهىّ حياه ونقطعوها بالتراتيل الحميمة عِنْد كل صلاة المعدن الهشّ هوّه اللى ضَنِيْن يتغَش وإذا حَشِّت الفترات بمناجلها الطوال أصوات.. أحياء.. أو أموات.. أصواتنا لاتِتْحَشّ. هذا القميص الخِشِن يِليق بصوتنا الخشن حتى البلابل فوق شواشى الصعيد صوتها جنوبى أجشّ أصوات ما أكلِتْش مِ الطرقات أصوات.. ماقتلتهاش عشوش القَش.. ما بْتنْتِميش للشمس فى الشتا وتهرب فى أول صيف!! لمزيد من مقالات عبدالرحمن الابنودى