أمس كنت أتصفح كتيبا صدر مع العدد الأخير من مجلة أدبية تصدر فى مصر، يضم مختارات من مقالات عميد الأدب العربى الصحفية، فوجدته كأنه يعالج قضايانا التى تؤرقنا فى هذه الأيام، ويجيب على الأسئلة الخطيرة المطروحة علينا.. بل وجدت أن الحوادث التى كانت تقع فى مصر خلال النصف الأول من القرن الماضى، وتتصل بالسياسة والثقافة والمجتمع والأخلاق والدين، تكاد تكون هى الحوادث التى تقع فى أيامنا هذه.. ويكفى أن أقدم لكم أمثلة من عناوين هذه المقالات، وبما جاء فى بعضها، لتروا كأننا مانزال نعيش فى أوائل القرن الماضى، أو كأن طه حسين مايزال يعيش معنا فى أوائل هذا القرن الحادى والعشرين. فى مقالة نشرها فى «الجريدة» التى كان يصدرها أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد فى الثامن والعشرين من شهر يونيو عام ألف وتسعمائة وعشرة آنذاك كان طه حسين شابا صغيرا فى الحادية والعشرين من عمره فى هذه المقالة التى نشرها بعنوان «ليس الإيمان ملكا لأحد»، يبدأ طه حسين كلامه فيقول: «أيسر شىء على بعض الناس فى هذا البلد أن يُرمى الرجل بالإلحاد فى دينه والمروق من إيمانه، إن أنكر بدعة معروفة أو جحد خرافة مألوفة، كأنما مفاتيح الجنان فى يد فلان، يدخل فيها من يشاء، ويزود عنها من يشاء». كم واقعة تقع فى أيامنا هذه يتطاول فيها البعض على البعض، ويقحم فيها المتاجرون بالدين أنفسهم فيما لا شأن لهم به، ولا علم ولا سلطان، يفتشون فى قلوب غيرهم ويتهمونهم بالمروق ويسوقونهم إلى ساحات المحاكم لا يعدمون فيها من يسايرهم ويوافقهم ويحكم لهم بما يشجعهم ويزيد من نهمهم كما فعلوا مع نصر حامد أبوزيد، الذى وقف فى المحكمة يكذب الذين اتهموه بالإلحاد، ويرفع صوته بالشهادتين أمام القاضى، الذى أصر رغم ذلك على إدانته، فحكم بأ نه كافر، وفرق بينه وبين زوجته. وأنا أذكر هذه الواقعة لأنكم تعرفونها، وتعرفون ضحيتها، لكن وقائع التكفير لا تحصى الآن، والتكفيريون لم يعودوا أفرادا مهووسين، أو متاجرين بالدين، بل هم الآن جماعات وتنظيمات وأحزاب لا تكفر أفرادا بذواتهم، بل تكفر المجتمع كله، وتعلن الحرب عليه كما تفعل جماعات الإخوان، والسلفيين، وتنظيم القاعدة، وداعش، وبوكو حرام، وغيرها. وتتصل بهذه المقالة التى أشرت إليها فيما سبق مقالات أخرى تذكرنا هى أيضا بما وقع لنصر حامد أبوزيد، وفرج فودة، ونجيب محفوظ، ويوسف شاهين، وحلمى سالم، وحسن طلب، وكاتب هذه السطور، وغيرهم من الكتاب والشعراء والفنانين المصريين الذين اتهموا فى دينهم لأنهم رفضوا التقليد، ورفضوا الصمت، وأدوا واجبهم فى طرح الأسئلة، واجتهدوا فى الإجابة عليها، فوجدوا أنفسهم محاصرين من هذه الجهة ومن غيرها، أعمالهم مراقبة، وأفلامهم ممنوعة، ومؤلفاتهم مصادرة، وربما صودرت معها مؤلفات أخرى لمؤلفين آخرين عاشوا فى عصور مضت، كما صودرت الليالى العربية «ألف ليلة وليلة» و«الفتوحات المكية»لابن عربى، وديوان أبى نواس. هذا الذى حدث عندنا فى العقود الأخيرة، كان يحدث مثله فى أيام طه حسين، فقد حدث فى يوم من أيام شهر يوليو سنة ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين، أن تصفح شيخ الأزهر كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادى الذى عاش فى القرن الحادى عشر، فوجد فيه نقدا لأبى حنيفة، فاعترض عليه، وطلب من رئيس الوزراء مصادرة الكتاب، فصودر، ليهب طه حسين وغيره من الكُتاب المصريين ينددون بما حدث، فيضطر رئيس الوزراء وشيخ الأزهر للتراجع والسماح بعرض الكتاب وتداوله.. وحول هذه القضية كتب طه حسين سلسلة من المقالات منها: «أين يريد أن يذهب بنا شيخ الأزهر؟»، و«حدود الحرية وسدودها»، و«توفيق دياب سجين الرأى»، و«بين الحرية والرقابة»، و«محنة العقل فى الجامعة»، و«الكذب فوق المنابر». فى هذه المقالة الأخيرة التى نشرت فى صحيفة «الوادى» الصادرة فى السادس من أغسطس عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين، يتحدث طه حسين عن خطيب مسجد الرفاعى الذى شن فى خطبة الجمعة حملة شعواء على كاتب لم يسمه طه حسين، ولم يسم كتابه، «فقد يكون أمرهما أيسر من أن يعنى به الناس، ونحن لم نكتب لتسميتهما، وإنما نمضى فى رواية النبأ كما تحدث به من تحدث، وكما كتب فيه من كتب.. أخذ هذا الخطيب إذن يذم الكتاب وصاحبه، ويكذب على الكتاب وصاحبه، ويضيف إلى الكتاب ما ليس فيه، وإلى صاحب الكتاب ما لم يقل.. ونحن نظن، ولعل شيخ الأزهر يوافقنا (الشيخ الظواهرى) على ما نظن أن المنابر لم تقم لتكون مصدرا للكذب وإشاعة الإثم عن الأبرياء». ألا تذكرنا هذه المقالة بالمعركة الدائرة الآن بين وزارة الأوقاف، وبين الذين اغتصبوا المنابر، وسخروها للدعاية لفكرهم المتخلف، وفرضه على المسلمين، وحولوا المساجد إلى ساحات للتخلف والتطرف وتمزيق الكيان الوطنى والعودة بالمصريين إلى ما كانوا عليه فى عصور الظلام؟. وكما تحدث طه حسين فى مقالاته هذه عن حرية الاعتقاد، وحرية الرأى، وحرية التفكير، والتعبير، ودافع عنها.. تحدث عن حرية المرأة وحقوقها السياسية، وعن الاختلاط بين الجنسين، وعن الدستور، وما قام عليه من مبادئ، وما نص عليه من حقوق وواجبات. كأننا لم نتقدم خطوة خلال القرن الذى مضى، فالطغيان تراث قومى، والخلط بين الدين والسياسة مستمر، والعدوان على حقوق الإنسان سياسة ثابتة، والعقل مضطهد، والمنابر مغتصبة، والمرأة سجينة أو سبية بيتها سجن، وعملها سجن، وثيابها سجن أسود، وسجنها هو دليل عفتها، فإن دافعت عن حريتها واستردت كرامتها تحرش بها الأجانب وقتلها الأقارب. بل إن حالنا اليوم أسوأ بكثير من حالنا فى أ يام طه حسين، فى أيام طه حسين كانت الملكية ملكية، فالشعب يطالب بالدستور، والملك يعتدى عليه ويعطل العمل به كما كان يفعل معظم الملوك.. أما فى أيامنا، فالجمهورية التى حلت محل الملكية ليست جمهورية، لأنها عندنا رئيس فقط، هو وحده الموجود، أما الشعب أو الجمهور الذى سميت الجمهورية باسمه ونسبت إليه فليس له وجود. وفى أيام طه حسين هزم المصريون الملك فؤاد حين أراد أن يتحول إلى خليفة، ورفعوا راية الدولة الوطنية، وهتفوا للهلال والصليب، وقالوا: «الدين لله والوطن للجميع».. أما فى أيامنا، فقد وجد الإخوان والسلفيون من يصوت لهم ليستولوا على السلطة، ويتحدثوا عن إحياء الخلافة، ويفتحوا حدود مصر للإرهابيين، ويوزعوا أقاليمها على إخوانهم فى الشرق والجنوب. ومن المؤكد أن العقل المصرى فى أيام طه حسين كان أكثر حياة ونشاطا ويقظة وشجاعة وفاعلية، وكانت المرأة المصرية تجاهد فى سبيل حريتها وحقها فى العلم والعمل، وقد انقلبت المرأة المصرية على نفسها فى العقود الماضية، فأصبحت تعتزل الفن، وتخاف من الحرية. وأنا هنا لا أبكى على الأطلال، ولا أطالب بعودة الماضى، ولا أظن أنه يعود لو طالبت.. وإنما أدعو فقط لقراءة مقالات طه حسين، لنتسلح بها فى مواجهة التحديات التى نواجهها الآن، فحقق انتصارات لم نواصلها نحن، ولم نضف إليها، بل فرطنا فيها، وتخلينا عنها، لنجد أنفسنا من جديد حيث كنا قبل أن يكتب طه حسين مقالته الأولى.