كأن أهل الكهف.. قد خرجوا من كهفهم الذي مكثوا فيه ثلاثمائة سنين عددا.. ولكنهم أمامي الآن ليسوا أبدا مثل أهل الكف.. ولن يكونوا.. إنهم فيتة آمنوا بوطنهم وبثورتهم وبقدرة سواعدهم وبرجاحة عقولهم وبجميل أفكارهم وبرائع صبرهم وعظيم جلدهم.. وكأنهم شيوخ في السبعين وليسوا شبابا وثابا.. عمره فيما بين العشرين والثلاثين أو أقل أو أكثر قليلا. هم أمامي يلبسون ثياب الصيادين وما هم بصيادين. فسألون: ازاي بس؟ وجوابي: لقد تعبوا وشقوا وتعب معهم أهلهم وشقوا حتي نالوا الشهادات المرموقة بمجاميع تسمح للأوائل بأن ينالوا شرف التدريس في الجامعات التي تخرجوا فيها.. والباقي تخرج بمجاميع تمنحهم درجة جيد وترشحهم لوظائف معقولة في الكادر الحكومي داخل أجهزة الدولة ودواوين الوزارات ولكنهم «كده بقدرة قادر» .. جاء الحظ عند اسمائهم وخلع قبعته وهرب إلي شباب آخر له ظهر يستند إليه .. قريبا أو باشا من باشوات هذه الأيام أو كبيرا في السلطة يدفعهم إلي حيث توجه الوظائف المستخبيه التي لا يعلن عنها أبدا في الصحف وتسألون: لماذا؟ والجواب: ما فيش.. لماذا؟ هاهم أمامي فتية آمنوا بوطنهم من شباب هذه الثورة.. كثير منهم كان له دور في ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو المكملة والفاصلة بين الضباب والضياع... وبين الحق واليقين .. الذي أشرق صباحه بتصحيح المسار.. وجلوس من اختاره الشعب رئيسا له علي كرسي الرياسة بعد انتخابات حرة ونزيهة.. لكي يقود دفة البلاد والعباد نحو نور الصباح. ............ ............ نعود بالشريط السينمائي إلي المشهد الذي أشاهده أمامي.. ولا أشارك فيه. نحن الآن في قرية «الشخلوبة» قرية أجدادي وأعمامي الذين تركوا القناطر الخيرية بلدنا من أيام محمد علي الكبير عندما كان اسمها «فم البحر». الشباب أمامي مجموعة جادة من الشباب المخلص الذي شارك في الثورتين 25 يناير و30 يونيو... ولما نجحت ونجح الرئيس السيسي واطمأن الشباب الثائر أن مصر قد أصبحت بين أيد أمينة... جاءوا إلي هنا ليكملوا المشروع الحلم كما أطلقوا عليه لكي ينفضوا أيديهم من غبار الوظيفة الميري... التي لا تفتح بيتا ولا تقيم أودا ولا تطعم زوجة ولا تشبع طفلا.. وجمعوا ما شقوا به أياما وشهورا وسنينا في وظائف «نص كم» برفع النون والكاف هكذا أطلقوا عليها + ما بقي من مدخرات عمر السنين وشقي الآباء والأجداد + مصاغ الأمهات اللاتي انحنت ظهورهن مع الآباء سنوات طوال عجاف حتي تخرج المحروس أو المحروسة وحصل الاثنان علي الشهادة المرموقة! جمعوا كل هذا وذاك وتلك وهذه وكونوا فيما بينهم جمعية أطلقوا عليها اسم جمعية «حسان ومغاوري وياسين» ولما سألتهم لماذا هذه الأسماء بالذات؟ قالوا: إنها أسماء ثلاثة من شباب البلدة ركبوا البحر في رحلة للبحث عن لقمة عيش في بلاد الفرنجة .. فلم يرجع منهم أحد .. ابتلعتهم الأمواج وغرقوا قبل أن يتحقق حلمهم... مثل مئات غيرهم غرقوا... ومئات آخرين ينتظرهم الموت فى كل مرة بين أمواج البحر المالح! ............ ............ ماذا فعل الثوار الصغار نبت وثمرة ثورتين معا؟ اشتروا مركبا للصيد... صيد السمك طبعا... ولكنهم قالوا لي: نحن لن نرتدي رداء الصيادين ونلقي شباكنا وسنانيرنا في مياه البحيرة... لنصطاد ما يرزقنا به الله كما يفعل كل الصيادين هنا ربما منذ بدء الخليقة حتي اليوم ولكننا سوف ندور بالمركب علي الصيادين في حلقات السمك المنتشرة داخل البحيرة ولا بأس من أن نطوف علي مراكب الصيد التي تحمل الصيادين بشباكهم وهم يصطادون السمك داخل البحيرة الواسعة. ولكن ... يتوقف الشباب عن الكلام المباح... وهم يطلبون مني أن أصحبهم إلي المزرعة التي استأجروها! قلت لهم: مزرعة أيه في وسط البحيرة؟ قالوا في صوت واحد: مزرعة أسماك! وركبنا المركب إلي قلب البحيرة النابض.. حتي وصلنا إلي «دغل» يعني بوص وهيش دخلنا فيه بمركبنا... حتي وصلنا إلي قطعة من البحيرة مربعة ومستطيلة لا فرق.. مليئة بالماء وداخلها تقفز بين الحين والحين سمكة بلطي أو شبار أو بوري يشرح القلب.. «اللي بيتنطط ويتنطط» صحة وعافية وجمالا! اسأل المعلم بكسر الميم ونصب العين وكسر العين الأخري عبدالحميد أبوزيد... وهو حفيد المعلم عباس ابن المعلم أبوزيد ... وكلهم عائلة أشهر أصحاب حلقات ومزارع السمك في بحيرة البرلس كلها ولنرحم بلدة السخلوية آخر بلاد مصر علي شاطئ البحر الأبيض: هذه المزرعة العظيمة من أقامها؟ قال: الأولاد أمامك ورفاقهم من شباب ثورة يناير ويونيو هم أصحاب الفكرة والمشروع. ............ ............ ماذا يصنع الشباب الذي كفر بتراب الميري.... وزهق وطلع روحه وروح أهله من انتظار وظيفة لا تقيم زودا ولا تطعم فما ولا تستر زوجة ولا أما.. ولا تفتح بيتا دافئا «يكركع» فيه الأطفال شبعا وعافية ومرحا؟ هم أمامي هنا .. يشترون زريعة السمك البوري والبلطي وهما أكثر سمكتين يحبهما المصريون علي اختلاف طوائفهم ثم يزرعونها في مياه مزرعة الأسماك لمدد يعرفونها هم ويسهرون علي الزريعة ورعاية السمك الصغير حتي يكبر .... وعندما يحين وقت الحصاد ... يجتمع الجميع... البنات يغنين والأطفال يهللون والشباب والكبار يجمعون السمك من قلب مياه المزرعة علي شاطئ بحيرة البرلس لتحملها السيارات النصف نقل إلي الإسكندرية والقاهرة ليتلقفها تجار الأسماك ويستقبلونها كما يستقبل العاشق الولهان حبيبة قلبه في ليلة الزفاف.. اسأل: والأرباح؟ قالوا: وبعدها يجتمع الجميع في ليلة فرح وغناء وطبل وزمر حتي الصباح! اسأل واحدا من الشباب: الدخل الذي يدخل جيبك أول كل شهر... هل يكفيك؟ قال: الحمد لله .. حاجة كده بالحلال وبالحب وبالصبر كلنا كده إيد واحدة زي ما علمتنا الثورة بنأكل من عرق جبينا... وقال لي شاب من فصيلة المجاهدين من أجل لقمة العيش هنا يا باشا كده أرحم وأكرم لينا وأملنا كبير في الريس عبدالفتاح السيسي أنه ينصف الغلابة الأول ويفتح أمامهم بمشروع الظهير الصحراوي واللي أعلن عنه في حملته الانتخابية باب الأمل للرزق الحلال! ............ ............ في المساء اجتمعنا علي شاطئ البحيرة والقمر حارسنا والليل ساترنا ودار حوار طويل مع شباب ثورة 25 يناير و30 يونيو .. الذي شق طريقه بجهده وعرقه وشقي الأهل والآباء وصحبة الأيام بعيدا عن تراب الميري الذي تبخر عبر ثلاثين عاما عاشها في دولة الفساد الأعظم تحت قيادة آخر الفراعين الطغاة البغاة الذي اسمه حسني مبارك. الحوار كله دار حول سؤال واحد... واحد فقط لا غير: ماذا نريد من دولة الرئيس عبدالفتاح السيسي؟ بدأ شيخ الصيادين بشيبته وهيبته الحوار بقوله: أريد أن أنقل للرئيس ما قاله له سلفه عدلي منصور: دقق في اختيار مساعديك... فهم الذين ينقلون لك نبض الشارع وأحاسيس الجماهير وما يجري خلف الستار وما يدور من همس ولمز وقيل وقال. أقاطعه بقولي: أذكر أن الرئيس أنور السادات نفسه قال لي مرة في شهر رمضان عندما دعانا نحن الصحفيين لافطار معه.. في معسكرات الجيش في الاسماعيلية... أكل هو شوربة ولحم مسلوق وفتة وأرز وأكلنا نحن مائدة عليها مالذ وطاب: أنا لا اعتمد علي آراء المستشارين في الرياسة كثيرا... بل اسأل أصدقاء لي من الخارج يصدقونني النصيحة! يتكلم بنفس اللغة العربية والد واحد من الشباب في المشروع: المساعدين يا سيدي والشلة التي حول الرئيس وأصحاب المصالح وبطانة السوء والناس أنفسهم من مصر وإنما وغالبا يصنعون من كل رئيس فرعون جديد... قلت: هذه عادة ورثناها عن أجدادنا الفراعنة الذين كانوا يعتبرون الفرعون الجالس علي العرش نصف إله... وربا إله كما قال فرعون موسي لقومه: أنا ربكم الأعلي! ولكن لكم أعجبني الرئيس كثيرا عندما كان يتحدث عن برنامجه أمام المدعوين في قصر القبة مساء حلف اليمين .. وهللت واحدة من المدعوين مديحا له... فلم يلتفت إليها وواصل خطابه متجاهلا إياها تماما! ويحضرني هنا ما قاله الإمام علي بن أبي طالب خليفة المسلمين لواليه علي مصر المدعو اشتر النخعي قبل نحو 1350 سنة: أياك والإعجاب بنفسك وسماع عبارات الإطراء وقصائد المديح والاشادة بقدرتك وفهمك وعظمة تفكيرك.. فهذا أول درجات ذلك الحاكم. ............ ............ مازلنا جلوس علي شاطئ البحيرة الواسعة التي تفيض خيرا وشبعا.. ونسمات السماء ترطب العيون وتدفئ القلوب. ويتكلم الشباب صاحب السواعد الفتيه: قال الأول: نريد من الرئيس أن يعيد النظر في قانون التظاهر.... من حق الناس أن تتظاهر سلميا ولكن دون عنف ودون إراقة دماء أو حرائق ومولوتوف وخرطوش وطلقات الغاز المسيل للدموع! وقال الثاني: يا عالم اتركوا الرئيس يعمل في صمت بلاش شوشرة.... وتلك القنوات الفضائية التي تشعلها نارا ليس لوجه الله والوطن طبعا أن تكف عن بث سمومها ونواياها الخبيثة! وقال الثالث: كلمة شكر وتحية للرئيس علي زيارته للسيده التى انتهكوا عرضها فى التحرير! ............ ............ يضع يده علي كتفي... إنه المسئول المالي عن مشروع الشباب وهو شاب مثلهم ولكنه خريج تجارة قسم محاسبة.. ولهذا سلموه خزانة المشروع وهو يقول: يا عالم دا أنا دايخ في حسبة مشروع صغير رأسماله صفر... وكل شهر بشهره... ومافيش قبض إلا بعد بيع المحصول.... كل خمس أو ست أشهر آمال ميزانية دولة بحالها اللي ورثها الرئيس السيسي فاضية وخربانة ومديونة برة وجوه... حيعمل أيه هو واللا ايه واللا ايه وربما يسهل في مؤتمر الدول المانحة لمصر بعد العيد! طلبت من المجتمعين ورقة يكتبونها للرئيس فيها طلباتهم... قالوا: لا طلبات مصر وكل المصريين أولا ... وادي احنا معهم فماذا كتبوا؟ اقرأ عريظة الشباب المصري الواعي: 1 الشباب الذي خلف الأسوار مدان جنائيا خليه علي جنب .. لكن الباقي مطلوب إعادة النظر في أمره حتي لا ينام أي واحد ليلة واحدة خلف أسوار السجون وهي نص كلمة الزعيم مصطفي كامل. 2 صدور قانون الحد الأعلي والحد الأدني للأجور.... ويطبق فور صدوره بدون مشاكيك وتلاكيك الكبار! 3 الأمن يا عالم يجب أن يعود الناس خايفة والبنات خايفة والتلاميذ خايفين واحنا خايفين من البلطجية علي لقمة عيشنا. 4 نظرة حقيقية .. نظرة موضوعية وبجد ل13 مليون شاب عاطل عن العمل... معقولة بلدنا في كل بيت وكل قرية وكل شارع واحد شاب عاطل... افتحوا ال400 مصنع المقفولة بالضبة والمفتاح ورجعوا عمالها ومهندسيها وخلوا عجلة الإنتاج تدور.. يا عالم شبعنا فقر عاوزين نشبع بقي «شعبه بعد جوعه»! ............ ............ في عام 1922 غني سيد درويش فنان الشعب: في الشغل يا سيدنا البيه والغلب اللي شاربينه .. يا ريت العالم عارفينه... حد الله ما بينا وبينك... غير حب الوطن يا حكومة{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى