وثيقة هذا الأسبوع تؤكد أن المشروعات الكبيرة والأعمال الضخمة تحمل بين طيات ملفاتها الكثير من الحكايات والحواديت الإنسانية ، غالباً لا يشعر بها الناس الذين يركزون إهتمامهم على المشروع والحدث الكبير دون الإلتفات للحواديت الإجتماعية والتفاصيل الإنسانية الصغيرة ومنها هذه الشكوى الإنسانية التى تحكى عنها هذه الوثيقة التى تكشف جانباً صغيراً من حكايات بناء « الكتبخانة الخديوية الجديدة « أو التى كانت جديدة فى نهايات القرن التاسع عشر . والوثيقة المتهالكة المؤرخة بشهر أغسطس عام 1899 خطها مجموعة من الأشخاص عددهم 12 شخص من أصحاب الدكاكين فى ميدان باب الخلق على رأسهم حسين الفوال وعبد الله حسن الإصفهانى التابع لدولة ايران وموجهة الى محافظ مصر « سعادتلو أفندم حضرتلى - وهو لقب تركى للتفخيم - « قالوا فيها أنهم مستأجرين دكاكين المرحوم ثاقب باشا الكائن مركزهم بميدان باب الخلق بمبلغ خمسة عشر جنيه شهرياً لأعمال البعض منهم قهاوى ودكاكين لمبيع أشياء مختلفة ، ومنذ شهر تقريباً ما نشعر الا وتشوين أحجار صوان لزوم بناء الكتبخانة الخديوية الجديدة ، ما يبلغ طول هذا الشون ( السور ) خمسون متر تقريباً وإرتفاعه أربعة إمتار وعرضه ستة أمتار تقريباً حتى تسبب ذلك فى كساد بضاعتنا ووقوف حال القهاوى التى كانت كل منها تكسب كل يوم مبلغ إثنين جنيه على الأقل ، وصار الحجر المحكى عنه كحائط فاصل بيننا وبين الشارع حتى أن المارة لا يتصوروا أن هناك شئ وراء هذه الأحجار ، وحيث أن وجود هذه الأحجار ضرر علينا من وجوه كثيرة أولها عدم مبيع شئ مما يعنى ثانياً دفع أجرة شهرية بدون فائدة وثالثاً أن ميدان مثل ميدان باب الخلق يعد من الشوارع الكبيرة وسعادتكم تعلمون أهمية وجود الشوارع الكبيرة لأن جميع الأهالي يقصدونها لأجل تبديل الهواء وكانوا يقصدون النوادي ( المقاهي ) تعلقنا إى الخاصة بنا وهو ما توقف حالياً، ومعلوم لسيادتكم إن العدل أساس الملك ولذا أرجو من سيادتكم إزالة ما وضع من الأحجار أمامنا رفقة بحالنا ولتحصيل معاشنا وسداد المطلوب منا شهرياً من أجرة وخلافه . ومن هذه الوثيقة نتبين أن مشروع بناء الكتبخانة الخديوية حتى وإن كان مشروعاً قومياً ضخماً فى ذلك الوقت إلا أنه أضر ببعض فئات المجتمع وخاصة أصحاب الدكاكين المواجهة للمشروع ومنهم أصحاب المقاهي والجزارين والحلاقين الذين تضرروا من وضع الأحجار أمام محلاتهم حتى كسدت تجارتهم وهجرهم الزبائن مما دفعهم الى تقديم شكوى بليغة الى محافظ المحروسة لإنقاذهم من الخراب الذين يعانون منه ، كما تبين الوثيقة أن مقاهي ميدان باب الخلق ووسط المحروسة كانت تلقى إقبالاً كبيراً من سكان المدينة بإعتبارها مكاناً للترويح عن النفس مما جعل مكاسبها تصل الى 60 جنية شهرياً وهو مبلغ ضخم فى ذلك الوقت . الجدير بالذكر أن الكتبخانة الخديوية أو - دار الكتب والوثائق - وقد أنشئت بمبادرة من علي باشا مبارك ناظر المعارف عام 1886 بعد صدور مرسوم من الخديوي إسماعيل بتأسيسها فى البداية في الطابق الأرضي بسراي الأمير مصطفى فاضل، شقيق الخديوي إسماعيل، بدرب الجماميز، وذلك من أجل تجميع المخطوطات النفيسة مما حبسه السلاطين والأمراء والعلماء والمؤلفون على المساجد والأضرحة ومعاهد العلم . ومع ازدياد محتويات الدار وضيق المكان بها، نقلت سنة 1903 إلى المبنى الجديد بميدان باب الخلق وهو المكان الذى أشارت اليه الوثيقة والذي أنشئ خصيصا لدار الكتب ودار الآثار العربية وإستغرق العمل فيه تبعاً للوثيقة وحتى إفتتاحه خمس سنوات ( 1899- 1904 ) ، وخصص للدار الطابق الأول ومافوقه، وافتتح في أول سنة 1904م وفي سنة 1961م بدأ إنشاء مبنى جديد للدار -لضيق المبنى القديم- على كورنيش النيل برملة بولاق وافتتح سنة 1977م. وتبلغ مخطوطات الدار حوالي 57 ألف مخطوط تعد من أنفس المجموعات و تتميز بتنوع موضوعاتها وخطوطها المنسوبة ومخطوطاتها المؤرخة. كما تضم مجموعة نفيسة من أوراق البردي تبلغ ثلاث آلاف بردية تتعلق بعقود زواج وبيع وإيجار واستبدال وكشوف وسجلات وحسابات خاصة بالضرائب أو تقسيم مواريث أو دفع صداق وغيرها. وأقدم البرديات يعود لسنة 87ه (705م) ولم ينشر منها إلا 444 بردية. كما تحتوي الدار على مجموعة من الوثائق الرسمية التي تتمثل في حجج الوقف ووثائق الوزارات المختلفة وسجلات المحاكم بالإضافة الى مجموعة من النقود العربية يعود أقدمها إلى سنة 77ه وتشكيلة كبيرة من مخطوطات القرآن المكتوبة على الورق والجلد وبعضها في الخط الكوفي القديم غير المنقط وبعضها لخطاطين مشهورين.