لا تعرف العنصرية لونا أو جنسا أو فكرا.. فهي بلا وطن، ولا جنسية، ولا لون. وليس هناك مجتمع انتشرت فيه، إلا جنى الهزائم، وحصد الانكسارات، واكتوى بالمحن، في ظل ما نشرته بداخله من ضعف داخلي، وإهدار ما انطوي عليه من قوة التنوع. ولا يستطيع أي قانون أن يمنع العنصرية؛ لأنها روح وضمير، لكن القوانين التي تكفل حقوق المساواة والمواطنة، وتحترم آدمية الإنسان كفيلة بصنع بيئة تمنع إنبات أو توالد أي شكل من العنصرية. وتعتمد العنصرية على سلاح الشائعات، والأحكام المرسلة، والتعميمات المطلقة، والتفتيش في الضمائر، والحكم على النيات، والاغتيال المعنوي، وتشويه الخصم. وتقترن العنصرية بالضعف الفكري، والاهتراء الداخلي، والاحتلال الخارجي، ويستخدمها بعض الحكام المستبدين من أجل الهيمنة على شعوبهم، كما قال تعالى: "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا". وتُنمي العنصرية في المجتمع الشكوك والظنون، وتغذي الأمراض، وتُكثر الأحقاد، وتهدر الأمن، وتهدد الاستقرار، وتقطع الوشائج، وبالجملة: تنشر البؤس، والخراب. وتعرف موسوعة "ويكيبيديا" العنصرية Racism)) بأنها "الاعتقاد بأن هناك فروقا وعناصر موروثة بطبائع الناس أو قدراتهم، وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما، وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لها بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا، في إطار "التمييز في المعاملة"، أو "التمييز العنصري" الذي يتم تبريره باللجوء إلى التعميمات المبنية على الصور النمطية، والتلفيقات العلمية". وتضيف الموسوعة أن بعض الذين يقولون بوجود هذه الفروق يقولون إن هناك جماعات أو أعراقا أدنى منزلة من جماعات أو أعراق أخرى، وهو ما يؤدي في النهاية إلى حرمان مجموعات معينة من حقوق، أو يؤثر في معاملتهم. وقد تتخذ العنصرية شكلاً أكثر تعقيداً من خلال العنصرية الخفية التي تظهر بصورة غير واعية لدى الأشخاص الذين يعلنون التزامهم بقيم التسامح، والمساواة. ومن أبرز الأمثلة المعاصرة للعنصرية نظام الفصل العنصري للسود بجنوب أفريقيا (Apartheid)، والحركة الصهيونية ضد العرب (أصحاب الأرض) بفلسطين المحتلة، ومعاداة السامية ضد اليهود بألمانيا النازية (Anti-Semitism)، والعنصرية ضد الأشخاص الشرق أوسطيين والمسلمين في الغرب، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 بالولاياتالمتحدة. وكان من أوائل الأعمال العنصرية، وأكثرها انتشارا، في تاريخ البشرية: "تجارة الرقيق" التي ظلت تُمارس حتى أقل من قرن مضى بحق الأفارقة السود في الغرب. وكنموذج عملي للعنصرية أيضا هناك ألمانيا النازية في الفترة من 1933 إلى 1945، التي شهدت حظر الزواج من خارج العرق الآرى، وتحديدا من اليهود، وما حدث في بولندا عام 1940 بحكم النازيين من تقسيم السكان إلى مجموعات مختلفة، بحقوق متباينة في الحصص الغذائية، والنقل العام.. إلخ، في إطار العزل العنصري. وكان للعنصرية تطبيقات أخرى في محاكم التفتيش التي انتشرت في عصور الظلام بأوروبا، والمكارثية التي تبناها السيناتور جوزيف مكارثي في الولاياتالمتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، والتمييز العنصري ضد السود الذي استمر في أمريكا حتى عام 1939، إذ كانت تُخصص لهم أماكن منفصلة لتناول الطعام، والماء. وقد نهى الإسلام عن العنصرية، وتعامل مع البشر جميعا على أنهم سواء، في الحقوق والواجبات، فكانت المقولة الفقهية: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا". كما حذر الرسول -صلى الله عليها وسلم- منها فقال: "دعوها فإنها منتنة". ووصفها بأنها "دعوى الجاهلية". وخاطب أحدهم عندما قال لأخيه "يا إبن السوداء"، بالقول: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وبرغم هذه التعاليم إلا أن العنصرية تتراجع في العالم، بينما تنمو في مجتمعاتنا، تغذيها نخب فاسدة؛ تعاني من عقد النقص، والتيه الفكري، والاضمحلال الإنساني. والمؤكد أنه ليس أمامنا خيار سوى التقدم إلى الأمام بدون عنصرية، والطريق إلى ذلك يبدأ بتقوية المجتمع المدني، وعدم ترك الناس فريسة لوسائل الإعلام التي تنهش عقولهم بالأكاذيب، والتعميمات والاتهامات المرسلة، ودعوات الاحتراب الداخلى، وتقديم وجهات نظر منحازة لطرف واحد، مع التخوين والتشكيك المستمر في الوطنية، وتشويه المخالفين، ونشر الصور النمطية السلبية عنهم. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد