ليس من المبكر الحديث عن دور مصر الاقليمى ، الجميع يعرف ان مصر تواجه بعد الاستحقاق الرئاسى الاخير، الكثير من التحديات الصعبة، جُلها اقتصادي،وبعضها سياسى ، وكثيرُ منها إداري، ومعظمه داخلي، الا ان غياب مصر عن دور خارجى فعال اورثها ضعفا هيكليا فى العلاقات الخارجية فى السنوات الاخيرة، انتهى بتراجع ملحوظا على المستوى الدولى والاقليمى ، مما ساهم فى تمدد الاخرين. تدخل مصر اليوم عصرا جديدا، ينتقل من الطلب الوطنى العام ( الاتفاق على رئيس بالاغلبية) الى التفكير بالطلب القومى العام. انشغال الادارة المصرية الجديدة بالشأن الداخلى متوقع فى الايام والشهور القادمة، ولكن ما يجب ألا يكون بديلا عن الانشغال بالشأن الاقليمى والدولي، فنحن الان فى عالم متداخل يؤثر الخارج على الداخل والعكس، بدرجة غير مسبوقة . ضعف الدور المصرى ليس ناشئا فقط من احداث السنوات الثلاث الماضية، بل هو ضعُف تدريجيا منذ فترة حتى وصوله الى مرحلة (عدم الفعالية) واصبح بمقدور الدول الاصغر ان تاخذ دورا ظله اطول من قامته، أثر فى الشأن الاقليمى والدولي،مما كانت مصر يجدر ان تقوم به. أسر لى احد وزراء الخارجية المصرية فى عصر الرئيس الاسبق حسنى مبارك، انه لم يكن وزيرا للخارجية كما يستحق المفهوم ، كان فقط جسرا يوصل بين الزائر الاجنبى و (مؤسسة الرئاسة) ،وقد تواتر هذا الامر فى اكثر من وثيقة،هذا التجريف لدور المؤسسة ( الخارجية) ورجالها و مفكرى مصر ومؤسساتها البحثية عن المساهمة فى رسم وتنفيذ السياسة الاقليمة والدولية، هو الذى انتهى الى ذلك الضعف الشديد للمؤسسة وللدور. الامر الاكثر الحاحا ان تقوم (المؤسسة) مدعومة باجنحة بحثية فى داخل الخارجية و خارجها مع مؤسسات اخرى، بوضع سياسة خارجية مصرية جدية وجديدة ، بعيدة العواطف وبعيدة ايضا عن الاهواء،تشكل قاطرة لدور اقليمى ودولى فاعل ومستحق . المشهد الدولى المتغير بشدة يحتاج الى (التفكير خارج التجارب السابقة) فلا السياسة الخارجية الناصرية ،ولا الساداتية ،فى زمن القطبين، قادرة على ان تتفاعل مع المشهد الدولى الحالى ( اى المراوحة من قطب الى قطب، اما سوفيتى او امريكي) نحن اليوم فى زمن القُطبية ( الر باعية) على الاقل، هى مكونة من امريكا، اوروبا، روسيا، الصين، وربما فى وقت قريب تلحق بهؤلا بلاد مثل الهند. والبرازيل ، بل هناك تجمعات اقليمة تتشكل، فاخيرا اعلن عن تجمع (اليورواسيا) بقيادة روسيا،بجانب مؤسسات دولية فاعلة ،فتصميم سياسة خارجية مصرية جديدة تحيطها مجموعة عربية ، تشكل كتلة حرجة فى المنطقة، هى على رأس اولويات (الجمهورية الثالثة) وهى سياسات لا بد ان تاخذ بالحساب التغيرات الهائلة فى وسائل الاتصال الحديثة، وفى التفكير الاستراتيجى وفى التغيرات الحادثة فى التكتلات الدولية. اذا كان ثمة خطوط عامة يمكن اقتراحها كمدخل، فهو محور عربي، بدأت ملامحه تتكون الان، فلا يجب ان نقرأ الاتقاق (السعودى الاماراتي) الاخير دون فهم اهدافه البعيدة ، هو اتفاق استراتيجى (انشاء لجنة عليا لتنفيذ الرؤية الاستراتيجية المشتركة بين البلدين) هذا الاتفاق لمح المخاطر القادمة، ويحضر نفسه لمواجهة عقلانية لها، ولا يستبعد ان تنضم دول خليجية اخرى لهذا الثنائي، على اساس تحقيق شعار أن ( الكل اكبر من مجموع الاجزاء)، و من خلال التنسيق عالى المستوى مع مصر يشتد عود المحور العربي.، ويعطى للعرب قوة تفاوضية امام الاخر المتكتل اصلا، شرقا او غربا، كما يحافظ على استقلالية الاقليم، وعدم العبث بمصالحه. على الجانب الآخر ، لمصر دور فعال واساسى فى اعادة بناء مؤسسة الجامعة العربية واعطائها شيئا من (الاسنان السياسية) فلم تعد الجامعة، بشكلها الحالى والقائم، كقوى بشرية وكهيكلية، بقادرة على مواجهة الصعاب الكبرى التى تواجه الاقليم العربى. إصلاح الجامعة العربية تحدثت عنه وثائقها فى اكثر من مرحلة، ويعاد الحديث عنه فى اوقات الازمات،ولكنه بقى حبرا على ورق، والتوافق النسبى الاخير، ابان المرحلة الانتقالية المصرية التى ابتعدت فيها مصر، رغبة او اضطرارا، عن النظر الى الجامعة، آن له أن ينتهي. فمن خلال المحور الجديد ذى الكتلة الصلبة، يمكن التوافق (باغلبية) مريحة على تطوير الجامعة، من هيئة استشارية وسكرتارية إلى مؤسسة فاعلة، من اجل ان تسارع لاخذ دورها الجديد، فى اكتشاف بوادر الازمات الاقليمية قبل ان تقع، ووضع الحلول الملزمة لها، بل والحديث عن المسكوت عنه بالكثير من الحرية (كما تستخدم أوروبا اليوم البرلمان الأوروبى للحديث عن المسكوت عنه لدى الحكومات) بهذا المحور الجديد يستطيع العرب وعلى راسهم مصر ان يؤثروا فى تكوين راي، وربما تبنى سياسات تجاه (الرباعية القطبية) التى تتشكل اليوم، عندها تاخذ هذه الرباعية، بدرجات مختلفة، مصالح العرب القومية من خلال كلمة جامعة تدافع عن مصالحهم . بتصور مصرى جديد للسياسة الاقليمية والدولية، يستطيع الاقليم أولا ان يضمد الجروح الصغيرة فى الجسم العربي، كمثل انتشال لبنان من فراغ الرئاسة الاولي، او التوتر المذهبى ذى الشكل المرضى فى مناطق اخري، مرورا بمعالجة الجروح الكبرى مثل الحروب الاهلية المهددة للسلام فى المنطقة، وانتهاء بموقف واضح ومشترك امام القوى (الرباعية) التى تختلف وتتفق فيها بينها على مصالح كبري، لا يجوز ان يدفع الاقليم ثمنا لها،فدون محور عربى من هذا النوع سوف تتعرض مصالح الدول العربية فرادى الى الاستباحة. أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية القصيرة، وبسبب الاوضاع الداخلية المصرية المُلحة، لم تُفرد مساحة كافية للنقاش حول اعمدة السياسة الخارجية المصرية المرجوة، الا تلميحا وإشارات من بعيد. لم يعد الان هناك مبرر لتجاهل اهمية سياسة خارجية مصرية واضحة ومبرمجة موضوعية، تاخذ بحسابها التغيرات الاقليمية و كذلك الدولية، على ان تكون شاملة ومبنية على قاعدة الفعل، لا رد الفعل! ترص صفوف الاصدقاء وتحيد المتشككين وتظهر للاعداء التصميم على التحدي. يقينى ان هناك عقولا فى مصر من اجيال مختلفة وخبيرة قادرة على رسم تلك السياسة وبرمجتها لتحقيق اغراضها، الا ان ما أريد ان اؤكد عليه هو درجة الأهمية الواجب اعطاؤها لمثل هذه السياسات فى الوقت الحالى، وهى من اولى اولويات الجمهورية الثالثة كما أراها. لمزيد من مقالات محمد الرميحي