انتهينا في المقال السابق على أن نجاح الدولة المصرية الجديدة مرهون بحسن تعامل النخبة الحاكمة مع ثلاث دوائر تم ترتيبهم حسب الأهمية: الدائرة المحلية والدائرة الدولية وقد سبق الحديث عنهما، واليوم نخصصه للدائرة الإقليمية. والدائرة الإقليمية أحد أهم محاور دوائر التحرك على صعيد السياسة الخارجية المصرية، ودول الجوار الجغرافي بحكم الموقع كإثيوبيا وإمكاناتها على تشكيل تهديد لمصر في منابع النيل، وبحكم التاريخ وتنازع الدور الإقليمي (كإيران وتركيا) وبحكم الأمر الواقع (كإسرائيل). وهنا نجتهد في بناء نموذج يحاكي الواقع المتعين ليس في دراسة السياسات والعلاقات باعتبارها علاقات ثنائية أو حتى متعددة ولكن في محاولة التقاط "صورة بانورامية مجمعة"، صورة حية تتحرك فيها مختلف الأطراف وتتبدل الرؤى والاختيارات بحيث يؤثر كل منها في الآخر؛ حيث دراسة سياسات معينة تستدعي إلى الذهن ومن ثَمّ إلى التحليل بقية السياسات وعلاقات أطرافها، وهذا أصدق ما يكون تعبيرا عن الواقع، وتتعدد الاحتمالات بحسب التغيير في كل عنصر من عناصر المعادلات الحاكمة. ولا يمكن لأي دور مصري مؤثر أن يتحرك بعيدا عن التنسيق مع السعودية وسوريا فكما يعلمنا التاريخ أن محور القاهرة الحجاز الشام ما التئم إلا وتغير وجه المنطقة وارتفعت مقاومتها واستعصت على الاحتواء. يقول المستشار طارق البشري: "ونحن نعلم من التاريخ أن ما من دولة مستقلة في هذه المنطقة التي توجد بها مصر إلا وقامت قاعدة استقرارها على مثلث مصر والشام والحجاز، وأن ما من دولة مستقلة في هذه الأركان إلا وسعت للتواجد في الركنين الآخرين وأن هذا السعي كان لاستكمال العناصر الأساسية للوجود المستقل الفعال، وكان هذا استجابة لمقتضيات الجغرافيا السياسية التي جعلتها منطقة ذات أمن ومصير واحد إزاء الأخطار الخارجية". ومن ثم فمنطقة الخليج أحد مناطق تجليات الدور المصري، أو مناطق "وضع الأقدام"، على اعتبار أنه من المفترض أن تكون سياسات الدولة الجديدة في مصر هي: - مقاومة الهيمنة الأمريكية ونمطها في الحياة - استمرار الصراع مع إسرائيل ولو بأشكال مختلفة - مقاومة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي بكل صوره. هناك دائرتان تحيطان بالدولة المصرية كل منهما تشكل مثلث متساوي الأضلاع: المثلث الأول: مصر والسعودية والعراق (أعمدة استقرار الدائرة العربية) المثلث الثاني: مصر وإيران وتركيا (أعمدة استقرار الدائرة "الشرق أوسطية"). وكلاهما تشكل دوائر تفاعلات وحركة للدولة المصرية إن سلبا أو إيجابا، وكلاهما تشكلان مناطق نفوذ للولايات المتحدة (العراق) أو مناطق احتواء (إيران) أو مناطق تحالف استراتيجي (تركيا) أو منطقة مصالح لا يمكن التفاوض بشأنها (السعودية). وتقتضي الدراسة العلمية لمجمل علاقات الأطراف مع الدولة المصرية افتراض حالتين لكل طرف: الأولى تعاونية والأخرى صراعية، وكذلك دراسة علاقات الأطراف بعضها ببعض من نفس المنظور. يمكن البدء بمثلث أعمدة الاستقرار في العالم العربي حيث تشكل الدولة المصرية الحلقة الأولى فيه فإذا أخذت العلاقة شكل التعاون مع النظام السعودي نكون بإزاء طرفين آخرين هما: العراق وسوريا (مع الأخذ في الاعتبار أن الأول خارج دائرة المنافسة، والثاني نظام في طور الأفول أي أن كلاهما في حالة إعادة تشكل الدور وإن طال أمدها). لكن أيضا بموازاة المثلث العربي لا يمكن إغفال المثلث "الشرق أوسطي" لتماس القضايا وتقاطعها ووجهة نظر الطرف الآخر الذي يملك ويطرح سياسات كونية "الولاياتالمتحدة" وتابعتها إسرائيل، حيث تقدم الولاياتالمتحدة تصورات تفصيلية لصياغة حاضر ومستقبل المنطقة وإعادة ترتيبها سواء عبر إمكانياتها الذاتية وقدراتها الخاصة أو عبر طرف ثالث، إسرائيل أو تركيا، وبذلك نفهم سرّ التحالف التركي الإسرائيلي. وعلى مسار المثلث العربي ربما كان أهم أهداف الولاياتالمتحدة وقواتها الرابضة في الخليج هو ضبط نمو الأطراف الفاعلة وتحديد معالم سياستها الخارجية وتشكيل مجمل تفاعلاتها والضغط على الدول العاصية أو المارقة من وجهة نظرها. أما إيران فهي أحد أهم أعمدة استقرار الشرق الأوسط ويمكن تصور مشهدين: أولهما: مشهد تعاوني (وإن كان بعيد الحدوث في ظل سيطرة الملالي) تنتهج فيه إيران سياسات وعلاقات دولية أكثر انفتاحا على دول العالم بشكل سلمي تتجاوز فيها مقولات تصدير الثورة (فالثورات لا تصدّر ولا تستورد) وتكفّ عن تحريك الأٌقليات المذهبية. ثانيهما: مشهد صراعي يقوم على سياسات بسط النفوذ والتوسع فيما تعتبره إيران مجالها الحيوي، فمحور الصراع بين مصر وإيران سيكون في الخليج العربي وهذا الذي أثبتته زيارة عصام شرف للسعودية والكويت، وتصريحه بأن الخليج خط أحمر. ومن ثم فإن الصراع بين "الدور الإقليمي" لأعمدة الشرق الأوسط و"الدور الكوني" للولايات المتحدة خاصة في منطقتنا هو الذي سيفرز تداعيات تؤثر على مجمل شبكة العلاقات وعلى تشكيل الدور الإقليمي للدولة المصرية. أما تركيا فالمشهد الحاكم هو المشهد التعاوني حيث تتحرك تركيا على دور إقليمي بعرض المنطقة وطولها محاولة استثمار الأبعاد الحضارية لهويتها الإسلامية والدخول من باب التعاون مع كل الأطراف. لدرجة أنها عملت على تخفيف حدة الصراع مع إيران على جمهوريات آسيا الوسطى وقبلت بشكل من أشكال تقاسم مناطق النفوذ، وفي منطقتنا تقوم بعملية توازن مبدعة بين دورها الإقليمي ودور الولاياتالمتحدة الكوني. لذلك يمكن القول أن مجمل سياسات وعلاقات الدولة المصرية تتقاطع مع كل/أغلب أهداف الولاياتالمتحدة ومن ثم يمكن تصور خط متصل تكون عليه كل القضايا السياسية مثل: عملية التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي وأمن الخليج وتصورات استقرار الأوضاع في العراق، وعلاقات مع الأطراف الرئيسية لبلدان الشرق الأوسط والسعودية من مجموعة دول الخليج وإيران وتركيا وإسرائيل (بحكم الأمر الواقع). ولا يمكن للدولة المصرية أن تجاهل ضغوط الواقعين الإقليمي والدولي على حركتها ومنها التعامل مع واقع مفروض حتى وإن كان مرفوضا من حيث المبدأ ولأن كل السياسات تشتبك اشتباكا حادا مع كل العلاقات فيمكن التفكير فيها مجتمعة (كما سبق) من خلال ما نطلق عليه "مصفوفة سياسات وعلاقات الدولة المصرية في الدائرة الشرق أوسطية". فالعلاقات مع الولاياتالمتحدة تستدعي إلى الذهن مناطق النفوذ والهيمنة في مجمل الشرق الأوسط والسياسات تستدعي دوائر الصراع وعلاقات الحلفاء؛ فالولاياتالمتحدة تتعامل مع الخليج وأمنه وبتروله باعتباره حزمة واحدة غير قابلة للتفاوض، كما أن إسرائيل وسياساتها لا يمكن فصلهما عن التصورات الأمريكية وربما لاشتراكها في خزانات تفكير Think Tankers متقاربة أو على الأقل متقاطعة ولا يمكن فصل الوضع في العراق عن الترتيبات الإقليمية الأمنية والاقتصادية والسياسية الجديدة في الخليج، وتغير الفكر الإستراتيجي الأمريكي في الخليج بعد حرب الخليج الثانية وإدراك عدم مناعة سياسة إقامة "قوة موازنة"، ودخول الدولة المصرية على هذه التقاطعات قد يؤثر سلبا على مجمل الأهداف الإستراتيجية الأمريكية، وإن ظل جوهر الصراع بين الأطراف الثلاثة (مصر وإيران وتركيا) هو تعبير عن بعض "مقتضيات الدور الإقليمي" باعتبار أن كل منهم يرى نفسه صاحب الدور الأكبر وأن اختلفت مثلثات الطرح. فإيران ومصر يعنيان بالدور الإقليمي دورا رئيسيا في المنطقة، وتركيا تريد أن تتحول من جسر إلى مركز سياسات، وبؤرة استقطاب وسياسات ملء فراغ. والخلاصة تقوم على أن نجاح الدور المصري هو دخوله من باب التعاون وتبريد كل المناطق الساخنة في علاقاتها الإقليمية، حيث تواجه الدولة المصرية بشبكة كثيفة من العلاقات التي تفرز سياسات تعمل على احتواء فاعليتها وعدم التسليم من قبل مختلف الأطراف لإحداها أن يصبح قوى إقليمية كبرى Super Regional Power في رسم وتحديد شبكة العلاقات والتفاعلات الإقليمية في تلك المنطقة المتميزة من مناطق العالم والتي يطلق عليها منطقة "الشرق الأوسط".