يقال إن شاعرا مصريا في العصور الوسطي الفرعونية كتب أن الإنسان يخاف الزمن; أما الزمن فيخاف الأهرامات والجزء الأول من العبارة مفهوم, فللإنسان عمر مهما طال سوف يصل إلي نهاية بالموت ويذهب من بعده إلي حيث لا يعود أحد; أما الزمن أي العمر نفسه وما يجري فيه من تغيرات فإنه يخاف الأهرام لأنها سوف تبقي طوال الوقت تمر بها عصور وعهود وحقب تتقلب فيها الإنسانية, ومصر من بينها, بينما تبقي الأهرامات صامدة عتية. القول فيه مبالغة ولا شك, وهل يوجد لدي الشعراء إلا المبالغة؟ ولكن في الأمر بعضا من الصحة وهو أن الثبات والاستمرارية والدوام هي من الأمور المصرية الأصيلة وليس الأهرامات فقط; وقديما علق أفلاطون علي الحضارة المصرية بأنها لم تتغير قط طوال ثلاثة آلاف عام تقريبا قبل أن يكتب كتابه القوانين, حيث ظلت علي حالها تقريبا دون تغيير في التقاليد والمثل. وعندما حاول إخناتون تغيير عبادة المعبود آمون رع إلي المعبود آتون, كان ذلك ثورة لم تستمر طويلا حتي عاد كهنة آمون مظفرين مرة أخري إلي قيادة ديانة العباد. وفي أواخر العصور الفرعونية كان الكهنة قد ضاقوا بالهجوم اليوناني أو الهيليني حسب أحوال ذلك الزمان الذين جاءوا إلي مصر يتعلمون منها ومن حضارتها, وما كان من رد فعل حراس التقاليد الفرعونية لخصه واحد من هؤلاء الكهنة عندما قال إن هؤلاء اليونانيين كالأطفال يسألون أسئلة كثيرة. وببساطة كانت مصر قد كفت عن السؤال منذ وقت طويل, وكان التآكل قد حل ربما نتيجة ذلك بالحضارة الفرعونية كلها. ومثل ذلك يحدث في مصر في أمور كثيرة, وما جري تكريسه خلال عقود خلت لا يمكن إثارة التساؤلات حوله, وهل هناك من يستطيع أن يطرح شكا في مسألة الدعم, أو في السياسات السكانية; والأهم من ذلك كله في موضوعنا الخاص بالسياسة الخارجية حيث التقاليد وضعت الدوائر الثلاث التي طرحها عبد الناصر العربية والإفريقية والإسلامية موضع التقديس. والغريب أن هذه الدوائر نفسها لم تحصل علي التقييم الكافي, وما حدث فعلا هو أن الدائرة العربية هي التي حازت نصيب الأسد, بينما ظلت الدائرة الإسلامية علي الهامش, أما الدائرة الإفريقية فكان لها حماس أيام التحرر الوطني ومن بعد التحرر تعقدت الأمور بالانقلابات العسكرية ومن بعدها المذابح الجماعية والحروب الأهلية والإقليمية فأصبحت أفريقيا أكثر تعقيدا من مجرد دائرة. وما حدث فعلا أيضا أن الدوائر الحقيقية للسياسة الخارجية المصرية كانت هي الدائرتان الأوروبية والأمريكية حيث كانت التجارة والدبلوماسية والزيارات الرئاسية; ومن وقت لآخر كان هناك حلم بدائرة آسيوية تضم اليابان والصين والهند وباكستان وإندونيسيا ولكنها ظلت دوما في دور التكوين لأن الصادرات المصرية لم يبق منها ما يذهب إلي هناك, والدبلوماسية المصرية لم يعد لديها من الوقت إلا القليل لعواصم بعيدة. ورغم كل ما حدث فعلا ظلت الدوائر الثلاث حاكمة في الكلام, وواحدة منها تعدت فكرة الدائرة فأصبح الأمن المصري أمنا وطنيا, أما الأمن القومي فصار عربيا, ومن وقت لآخر ينزلق اللسان فيقول بالأمن القومي المصري, أما الأمن القومي العربي فيصير الدور الإقليمي لمصر. ومع اختلاط المفاهيم فإن وجود الاستراتيجية يصبح صعبا, والتنسيق ما بين أجهزة ومؤسسات مختلفة يصبح مستحيلا. وما نحتاج إليه اليوم هو أن نعود إلي مائدة التفكير في المفاهيم مرة أخري, ومنها نعود مرة ثانية إلي رسم السياسات والخطط. وعلي المائدة فإن فكرة الدوائر لا تبدو منطقية علي ضوء كل ما سبق, ولكنها معوقة وغير منطقية, فالدول ليس لها دوائر وإنما لها مصالح وطنية ينبغي الدفاع عنها والسعي نحو تحقيقها. ولا توجد مصلحة وطنية مصرية الآن قدر اللحاق بالدول المتقدمة, فتكون دولة مدنية سياسيا وحديثة اجتماعيا وغنية اقتصاديا وعضوة في مجموعة الدول العشرين التي تضم تركيا والسعودية وجنوب أفريقيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك وإندونيسيا والصين والهند بالإضافة إلي حفنة من الدول الغنية منذ وقت طويل. وفي وقت من الأوقات كانت هناك توقعات مصرية أن تكون مصر ضمن مجموعة الدول الثماني, وبعدها جرت توقعات أن تكون مصر ضمن مجموعة الدول الأربع عشرة بعد توسيع الأولي, ولكن مصر لم تصل حتي إلي مجموعة العشرين, ولا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الصناعية الكبري. المسألة إذن أنه لا توجد مصلحة مصرية قدر التنمية بمفهومها الشامل السياسي والاقتصادي, ومن ثم فإن جوهر السياسة الخارجية ليس الدور الإقليمي حيث تكون مصر داخلة في كل صراع إقليمي, أو أن تستنزف مواردها السياسية في الإفراج عن جندي إسرائيلي بينما لا الحكومة الإسرائيلية علي استعداد لتقديم سياسات مقنعة باستعدادها للسلام, ولا جماعة حماس تريد أن تكون جزءا من اللعبة وليست حاكمة للعبة. وبصراحة فإن الوظيفة الأولي للسياسة الخارجية ينبغي أن تكون هي جذب الاستثمارات والسياحة لمصر من إطارها الإقليمي. مثل هذا القول يلقي اعتراضا بأن ذلك يحرم مصر من موارد سياسية كثيرة توظفها أيضا في الحصول علي مزايا اقتصادية, بل إن هناك من قال ان مصر تبيع السياسة لكي تحصل علي الاقتصاد. ولكن مثل ذلك يغفل نقطتين: الواقع هو أننا لم نعد نبيع السياسة, ولكن محاولات جزئية كما هي الحال مع قضية جلعاد شاليط أو المصالحة الفلسطينية أو المشاكسة في قضية انتشار الأسلحة النووية, وكلها عائدها الدبلوماسي والسياسي قليل وثمنها مرتفع حينما كان علي مصر أن تواجه لفترة طويلة التعامل مع الأنفاق علي الحدود المصرية الفلسطينية. والنقطة الأخري هي أن المعادلة كلها خاطئة, فالدول التي دخلت نادي الدول المتقدمة دخلته لأسباب اقتصادية( كوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا والبرازيل وغيرها) ومن يظن أن مصر ذات قيمة جيوسياسية فقط مخطئ ولا يري القيمة الجيو اقتصادية المصرية التي هي كبيرة وهائلة ومواردها لا تحد. الداخل أولا وتنمية الداخل المصري إلي مستويات عليا هو الذي سوف يعطي للدور المصري قيمته, كما أنه هو الذي سيجعل عناصر القوة المصرية ذات معني. وبصراحة وفيما عدا قضية المياه والنيل فإنه لا توجد قضية تهدد الوجود المصري في المرحلة الراهنة, وما هو موجود من تهديدات للأمن القومي يأتي فقط من اختلال التوازن العسكري والنووي لصالح إسرائيل, ولكنها تأتي أيضا من اختلال التوازن الاقتصادي بين مصر والدولة العبرية. وإذا كان شائعا ومعروفا حجم الفارق في التسلح النووي والأسلحة التقليدية, فإنه ليس شائعا ولا معروفا أن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل قد بلغ37 ألف دولار بينما هو في مصر قرابة2160 دولارا. وفي الحقيقة أنه بينما نجحنا في تحييد الفارق في القوة العسكرية عن طريق ردع شامل بالقدرة علي إيذاء الطرف الآخر, فإن ذلك ليس متاحا في الناحية الاقتصادية. ومعني ذلك أن تكون لنا سياسة إقليمية لا دور إقليمي, وهي سياسة تقوم علي إدراك التحولات الجارية في المنطقة إلي حالة شرق أوسطية يحاول السيد عمرو موسي أمين عام جامعة الدول العربية أن يغلفها بعلاقات خاصة بين دول الجامعة العربية مع دول الجوار الجغرافي. وخلال عقد الثمانينيات كنت أول من طرح في كتاب هذا المفهوم دول الجوار الجغرافي لكي يكون الجسر ما بين المفهوم الإقليمي العربي ومفهوم الشرق الأوسط, ولكن الواقع الآن قد تغير تغيرا كبيرا, فالشرق الأوسط لم يعد جوارا وإنما بات جزءا من الإقليم العربي خاصة بعد سقوط العراق وتفكك السودان والروابط التحتية اللبنانية حزب الله والفلسطينية حماس مع إيران, والعلاقات الخاصة بين تركيا وسوريا. فالمسألة الآن لم تعد دائرة عربية لها هوامشها الشرق أوسطية, بل إنها صارت بامتياز دائرة شرق أوسطية لها دينامياتها وتوازناتها الاستراتيجية. هل في مثل هذا الاتجاه دعوة إلي العزلة النسبية والانغلاق علي الذات حتي تتم عملية التنمية ؟ والإجابة هي بالنفي, فلا بد أن تكون هناك سياسة خارجية مصرية نشيطة لها أولوياتها التي تتحدد في منطقة مياه النيل الإفريقية, وإقامة التحالفات والعلاقات التي تحافظ علي التوازن الاستراتيجي الشرق أوسطي, والتفاعل مع العالم والإقليم لجذب ما يكفي من الاستثمارات والموارد الخارجية المالية والتكنولوجية التي تعجل بعملية التنمية. وما عدا ذلك فليترك لأهله, وواجبنا هو حماية حدودنا أما القضية الفلسطينية فإنها ليست قضية أهلها فقط, ولكننا سنساعد يوم تطلب منا المساعدة التي لا تضرنا أو تعوق نهضتنا وتقدمنا. فهل لدينا الشجاعة لكي نفتح هذا الملف الحساس في السياسة الخارجية؟ وما حدث فعلا هو أن الدائرة العربية هي التي حازت نصيب الأسد, بينما ظلت الدائرة الإسلامية علي الهامش, أما الدائرة الإفريقية فكان لها حماس أيام التحرر الوطني ومن بعد التحرر تعقدت الأمور بالانقلابات العسكرية ومن بعدها المذابح الجماعية والحروب الأهلية والإقليمية فأصبحت أفريقيا أكثر تعقيدا من مجرد دائرة. بصراحة وفيما عدا قضية المياه والنيل فإنه لا توجد قضية تهدد الوجود المصري في المرحلة الراهنة, وما هو موجود من تهديدات للأمن القومي يأتي فقط من اختلال التوازن العسكري والنووي لصالح إسرائيل. [email protected]