منذ يناير 2011 والأحداث تتوالى بعنفها وعنفوانها وصخبها كموجات محيط مضطرب وكلما شعرنا أن الأمور تسير فى طريقها الصحيح، سرعان ما يختل التوازن، مرة أخرى حتى جاء علينا حين من الدهر شعرنا أننا تجاوزنا «الساعة الخامسة والعشرون» وهى اسم الرواية الشهيرة للأديب الرومانى كونستانتان جورجيو والتى ترصد ما شهدت أوروبا فى الحرب العالمية الثانية من مآسى على أيدى النازيين وكيف تم التمييز بين الناس على أساس الدين والايديولوجيا والعرق.. تنبأت الرواية بأن الثورة التكنولوجية ستحول البشر إلى كائنات آلية فالساعة الخامسة والعشرون هى الساعة التى ينقطع عندها الرجاء هى الساعة المفقودة زمنيا.. هى الساعة التى لن تشرق فيها الشمس .. هى اليأس المطبق لأنها ليست الساعة الأخيرة ولكنها الساعة بعد الأخيرة التى تنعدم فيها كل محاولة للإنقاذ .. نعم مرت علينا ساعات ستدمغ الذاكرة لأمد طويل. فى هذا المناخ المكفهر – معنى واسما – حاولت الأغلبية الهروب بعيدا عن حرائق السياسة وغبارها .. ولكن هيهات.. فالفضائيات من أمامنا ووسائل التواصل الاجتماعى من خلفنا .. ومع تصاعد حالات الاستقطاب السياسى اهتزت الكثير من القيم وأصبحنا نخسر يوميا جزءا من مظلة التقاليد وتحول السجال والاختلاف فى الرأى إلى مستوى من التعصب.. تأكدت معه مقولة هيجل الشهيرة» كل شىء يحتوى على نقيضه فى صميم تكوينه» وعود على بدء وهكذا انتقلنا من خلال الفيس بوك ومن العالم الافتراضى إلى زمن العشائر التى تفرض «عقدها الاجتماعى» على الجميع ولم يجد – العقلاء ذوى الوعى التعيس والوجدان المعذب أمامهم من سبيل إلا عالم الرواية.. حيث الفضاء الذى لا يحده إلا المزيد من الخيال.. فالزمن الأدبى هو الزمن الوحيد الذى يسمح بالتحرر من الزمن السياسى. فى خضم هذه الأجواء نصحتنى صديقة بشرب فنجان شاى بالياسمين يوميا للمساعدة فى التخلص من الكوليسترول .. فضحكت لأننى كنت أعرف مغزى هذه العبارة الشهيرة لنجمى الأثير والمفضل عادل إمام ودار حوار قصير بيننا أخبرتنى على إثره أن تفاعل الشاى مع الياسمين (كيميائيا) يحدث هذا المفعول الصحى وكنت أظن ذلك التفاعل «فانتازيا سينمائية» لكنى شربتها وعلى نكهة هذا الشاى العطر قرأت رواية الأديب الشاب أحمد مراد 1919 حيث استطاع المؤلف أن يحول الأحداث التاريخية الهادئة والنائمة فى أقبية النسيان إلى جمرة محتفظة بوهجها وألقها من خلال السرد المتقطع والمجاز اللغوى والرهافة الإبداعية والخروج بها من قيود السرد التاريخى النمطى إلى فضاء أكثر غنى وإلهاما وتأويلا وإسقاطا على الواقع المعاش.. فالرواية غنية بالتفاصيل «الأنيقة» والتفرد فى السرد ويبدو أن أحمد مراد استغل إمكانياته القصوى فى التصوير (فهو خريج معهد السينما) فشاهدنا الأحداث بعدسات وزوايا مختلفة واستخدام الميكروسكوب أيضا لرؤية الأشياء البعيدة والدقيقة وفى حوار بينى وبين د. خالد الغمرى أستاذ اللغويات الحاسوبية بجامعة عين شمس توقفنا عند ظاهرة انتشار قراءة الروايات عالميا بصورة متزايدة.. فأكد لى أنه بحكم تخصصه وإطلاعه بصفة منتظمة على قائمة الكتب الأكثر مبيعا على موقع «أمازون» الأمريكى لشراء وبيع الكتب اكتشف أن الروايات تتصدر القائمة فى معظم الأحوال إضافة إلى أن موقع «جود ريدز» الذى يعد أكبر شبكة اجتماعية للقراء فى العالم تتصدر الرواية فى العالم العربى قائمته أيضا وإذا نظرنا مرة أخرى على نفس الموقع سنجد أن روايات أحمد مراد هى الأكثر قراءة بين مستخدمى الموقع من الشباب وهم بالآلاف ويسترسل د. خالد فى تفسيره لهذه النتائج قائلا: نعم إنه العصر الذهبى للرواية طبقاً للأرقام المعلنة ومن خلال متابعتى لتعليقات القراء على موقع «جود ريدز» يمكننا الربط بين جفاف الواقع وقسوته وقراءة الروايات وخاصة «الخيالية» فهى تحمل إسقاطات على الواقع، وتقدم واقعا بديلا فيه الإنجاز ممكن والشخصيات قادرة على الفعل والتأثير.. كل ذلك يولد داخل القارئ «طاقة إيجابية» ووجبة ثرية للخيال الذى يريحه ولو لفترة قراءة الرواية.. وهذا الشئ يفسر شعبية روايات أحمد مراد لأنها تقدم هذا الهروب الجميل من الواقع مع الإبقاء على خيط رفيع من الاتصال معه من خلال الإسقاطات فيشعر القارئ بالسعادة وهو يحاول استكشافها. حديثى مع د. الغمرى حفزنى لمقابلة هذا الأديب المبدع الذى لا يتجاوز عمره الخامسة والثلاثين عاما .. والذى يعد نبوغه الأدبى بمثابة قصة قصيرة تثير شهية أى كاتب صحبى.. ففى عام 2007 كانت إطلالته الأولى برواية «فيرتيجو» فحققت نجاحا ساحقا ولم يكن يتجاوز الثلاثين عاما .. وسرعان ما تمت ترجمتها إلى أربع لغات وتحولت إلى مسلسل تليفزيونى شهير.. وفى عام 2010 كتب «تراب الماس» ثم جاءت «الفيل الأزرق» لتحتل مركزا مرموقا فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2014 وتم تحويلها أيضا إلى فيلم سينمائى من إخراج مروان حامد.. إذن نحن أمام حالة إبداعية متميزة.. فحاولت الحصول على رقم تليفون مراد من أحد معارفه من الشباب .. فابتسم فى خجل قائلا: إنه شاب فى مثل سنى ولا يعطى تليفونه إلا بنفسه لمن يريد لأنه كان يتلقى كم هائل من الاتصالات!! شردت ثوان وتذكرت كيف كان أمير الشعراء أحمد شوقى يحرص على زيارة الأهرام وتقديم قصيدته بنفسه لرئيس التحرير آنذاك كما أخبرنا السياسى الكبير فتحى رضوان وكذلك حكايات أستاذى أنيس منصور عن دأب عبد الحليم حافظ وحضوره المتكرر لأخبار اليوم لنشر خبر صغير عنه فى بداية حياته الفنية.. اختلف الزمان وتبدلت الأدوار والأولويات ولكن لم تختلف معايير الإبداع الحقيقى عموما شكرت صديقه الشاب وتفهمت الموقف وأسعدنى ما سمعت ولم أتأفف أو انعته بالتعالى .. فهو فى النهاية ليس معنيا بالشهرة ولا يسعى للتنظير السياسى ولا التنقل بين الفضائيات مثل كثير من الأدعياء ولكنه مشغول بمشروعه الأدبى ومتفرغ لأبحاثه الاجتماعية والتاريخية والفنية وكل ما من شأنه أن يثرى رواياته إنه من جيل مختلف بدأ من حيث انتهى الآخرون.. فالنجاح ليس وليد الصدفة. وإذا كانت الرواية عملا أدبيا لا يطعم خبزا أو يهدى ضالا.. لكن من يقرأ رواية الفيل الأزرق سيكتشف قدرة هذا الأديب ولغته الساحرة على تحويل الواقع بكل حثالته ونفاياته وشقائه إلى عالم افتراضى خارج إطار الزمان والمكان.. نجح الكاتب بهذا (الأسلوب الكيميائى) فى الكتابة التى تشبه جمع الشاى بالياسمين من تحويل كسر الحديد إلى مشغولات من ذهب وفضة .. وعرفت عن أحمد مراد ما أشبع فضولى واكتفيت بقراءة حواره فى جريدة الشرق الأوسط.. عالم الفيل الأزرق يدور حول طبيب نفسى يفقد زوجته وابنه فى حادث ثم يعود بعد فترة نقاهة إلى عمله بمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية ليفاجأ بأن صديقه وزميله الطبيب قتل زوجته وأودع عنبر المرضى ذوى الحالات المستعصية فيحاول مساعدته لتكتشف أنه ليس القاتل ولكن الفاعل هو الجن الذى تلبسه.. والرواية تحفل بقاموس لغوى مشبع بالتشويق والإثارة والغموض بصورة تذكرنا بروايات أجاثا كريستى حيث يوجد القاتل دائما فى المكان الذى لا يخطر على بالنا.. حالة من اللهاث والتوحد الشديد ينزلق إليها القارئ ويبدو تأثر الكاتب بروايات دان براون وربما «عوليس» أيضا لجيمس جويس.. إضافة إلى تأثره الواضح بمدرسة التنقيطيين فى الأدب التشكيلى.. فهو خبير فى هذا العالم الملئ بالأسرار والسحر والشعوذة ويمتلك مفاتيح هذا العالم بكل حساسية واعتقد أننى لو سألته عن سر هذه الحساسية ستكون الإجابة: إنه لا يعلم فالكتابة بالنسبة للموهوبين من أمثاله تكون فعل لا إرادى فأحمد مراد لا يبحث عن الواقع ولا عن ظلاله ولكنه يبحث عن «الحقيقة الخيالية». توجد محاولات عديدة لتجديد الرواية لقد ضاق ثوب الماضى وآن لنا الخروج من مرحلة دودة القز إلى مرحلة الفراشات الملونة بعيدا عن النمطية فلكل أديب قرون استشعار تميزه عن الآخرين والموهبة الفطرية لم تعد تكفى فى هذا العالم المحتدم لمن يريد ألا يكبو من فوق الحصان الرابح.. فلابد من وجود خلفية فكرية وثقافية لعبور تلك الهوة بين الوعى الحاد بالأشياء وبين محاولات التغاضى عنها وإسكاتها فى نفس الأديب. واللافت للنظر أننا شاهدنا محاولات عديدة للكتابة عن ثورة 25 يناير وهى طازجة ولكن الخميرة الإبداعية كانت لم تنضج بعد وفشل المشروع.. لأن الثورة استغرقت عقودا لتشتعل فلا يمكن أن تكتب فى شهور ومن المؤسف أن هناك أسماء كبيرة حاولت اجتياز «خط جرينتش الأدبى» وتجاوز قوانينه وزمانه الخاص فكان الفشل حليفهم لأن الكتابة عن الثورة شىء وكتابة الثورة شىء آخر.. من هنا يزداد إقبال الشباب على روايات الفانتازيا لأنها تحمل شيئا مغايراً. فى يوم من الأيام تساءل صموئيل بيكت فى دهشة: «كيف يمكن لنا الحديث فى هذا العالم دون أن يكون لنا وزن أو قوة؟ وماذا نقول عن المساحات التى تختفى والحدود التى تهتز والتوازنات التى تنهار من لاشىء ثم تعاد لمح البصر؟ ويجيب قائلا: إنه الأدب». تلك الشرارة التى تسبق أى نهضة علمية أو اجتماعية فالأدب حياة لا مهنة لابد من صيانتها لأنه يجعلنا نعيش حياتنا مرتين.