لم تلحق الجزائر بدول الحراك الثوري العربى وظلت تحاول أن تنأى بنفسها عن الصراعات الإقليمية التى نجمت عن تفاعلاته، إلا أنها وبرغم ثقلها الإقليمى وقوتها الاقتصادية لم تستطع أن تظل بعيدة عن تأثيرات هذا الحراك، وكانت الانتخابات الرئاسية التى عقدت فى السابع عشر من أبريل 2014 فرصة مناسبة لتعكس الجدل الكبير الذى يشهده المجتمع الجزائري وليعبر من خلالها الشباب الثوري عن رفضه استمرار حالة الجمود السياسى الذى تعانى منه الدولة، والعزلة التى فُرضت عليه لتمنعه من تحقيق ما أنجزه نظراؤه فى الدول المجاورة من تغيير للأنظمة الاستبدادية. إضافة إلى ذلك، فإن الجدل الذى شهدته الانتخابات الرئاسية الجزائرية، قد طرح مجموعة من المتغيرات التى من شأنها أن تفسر حالة الاستقطاب الذى تعيشه الدولة، وهل هناك عوامل ستدفع فى اتجاه التغيير السياسى أم أن خصوصية الحالة الجزائرية ستظل تطغى على «مطالب التغيير» وتكرس استمرار الوضع القائم.
كيانات صلبة فمن جانب، جاء ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ( وبرغم حالته الصحية الحرجة) فى الانتخابات، بدفع من ما يطلق عليه «الكتل الحاكمة» فى البلاد وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، والحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطنى)، وبعض الكتل البرلمانية، ونخبة من رجال الأعمال، ليشير إلى أن دائرة الرئيس تساندها المؤسسة العسكرية ستستمر فى حكم البلاد خلال الولاية الجديدة له (الرابعة)، دون إحداث تغييرات ملموسة على بنية نظام الحكم في الجزائر. أمراض المعارضة ومن جانب آخر، يظل ضعف المعارضة الجزائرية وتشرذمها، عقبة رئيسية وحائلا أمام أى تغيير مرتقب، ويعبر عن أزمة الدولة الجزائرية ككل، فضعف المعارضة يشير إلى غياب الرقابة الشعبية على المؤسسات والموارد العامة فى الدولة، فقد طوقت السلطة الحاكمة المعارضة ووضعتها فى حيز محدد تتحرك فى إطاره، وفقدت جزءا من قواعدها الشعبية تحت وطأة انشغال بعضها بالمشاركة فى السلطة أو تأييد النظام الحاكم والحصول على عطاياها. وبرغم تعويل البعض على أحزاب التيار الإسلامى لما لها من نشاط فى الداخل الجزائرى، والتى أعلنت مقاطعتها للانتخابات، إلا أنها تعانى هى الأخرى الخلافات الأيديولوجية والشخصية والانقسامات الداخلية، كما تتحمل هذه الأحزاب أعباء ما نسجته سنوات الحرب الأهلية من تصورات مخيفة فى الذاكرة الجماعية عن أفكار التيار الإسلامى عن المجتمع، ورفض قطاع كبير من الشعب الجزائرى لتولى رئيس من هذا التيار للحكم، أما الطبقة الوسطى فتستفيد غالبيتها من الهدايا المالية التى يقدمها لها النظام. الضعف الشبابي أما القوى الشبابية فلا تزال تتحسس طريقها نحو الحشد والتعبئة، وكغيرها فى الدول العربية تعتمد هذه القوى على مواقع التواصل الاجتماعى على الانترنت وتقوم بتنظيم الوقفات والاحتجاجات التى غالبا ما تحيط بها عناصر الشرطة، ومنها حركة «بركات» والتى تعنى باللهجة العامية الجزائرية «كفى» والتى تكونت قبل ترشح الرئيس بوتفليقة فى الانتخابات الأخيرة ولا تزال أعدادها قليلة، كما يعيق قانون منع التظاهر الصادر فى عام 2001 من حركة القوى والمنظمات الشبابية ويحد من قدرتها على التعبئة. امتصاص الضغوط وبرغم كون المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية فى الجزائر باعتبارها دولة نفطية غنية، لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها فى البلدان العربية التى شهدت احتجاجات شعبية، حيث يعيش ما يقرب من 23 % من السكان تحت خط الفقر، ويقترب معدل البطالة من 10% من السكان (وبين الشباب يصل إلى 21 %) إلا أن سعى النظام الحاكم لشراء السلم الاجتماعى يحول دون تطور الاحتجاجات إلى مرحلة التعبئة الكبيرة وتمكن القوى الثورية من إسقاط النظام فلم تشكل المظاهرات التى اندلعت فى ميادين الجزائر المختلفة عام 2011 بعد سقوط نظام معمر القذافى في ليبيا تهديدا حقيقيا للنظام. فقد امتلكت الحكومة الموارد لمواجهة المطالب الاجتماعية ولو على المدى القصير، وعقب الاضطرابات التى شهدتها البلاد، أعلن الرئيس بوتفليقة جملة من الإصلاحات، واتخذت الحكومة عددا من الإجراءات الاقتصادية والسياسية، فوافقت على تنقيح الميزانية الوطنية فى فبراير 2011 فزادت من الإنفاق العام لبقية السنة بنسبة 25%، ليغطى هذا الإنفاق الإسكان الاجتماعى، وزيادة مرتبات القطاع العام، وإيجاد تسهيلات لقروض الشباب، وتقديم إعانات للسلع الأساسية، مع إلغاء قانون الطوارئ المطبق فى البلاد. العشرية السوداء هذا فضلا، عن استمرار الآثار النفسية للعشرية السوداء على المواطن الجزائرى والذى يفضل فى أحيان كثيرة الاستقرار فى ظل نظام استبدادى عن الفوضى والاضطرابات فى إطار التحول الديمقراطى، فالاستقرار مقدم على مشاعر الغضب من البطالة وغيرها من المشكلات الاقتصادية، وقد عملت القوى المساندة لترشح بوتفليقة لولاية جديدة على استخدام هذه الحجة والتأكيد على دوره فى تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء سنوات الدم والنار، حيث ربط هؤلاء بين استمرار بوتفليقة فى السلطة، واستمرار حالة الاستقرار، مع عدم وجود بديل فى ثقل بوتفليقة لقطاع كبير من الجزائريين. كما دعمت الأحداث التى تشهدها دول الحراك الثوري العربى وخاصة فى الشمال الأفريقى من هذه التصورات فى ظل الاضطرابات التى أصبح يعانى منها الإقليم نتيجة التجاذبات السياسية بين القوى المختلفة فى دول الثورات، والفوضى التى تشهدها مناطق واسعة فى ظل صعود الجماعات الإرهابية وانتشار الميلشيات المسلحة واستغلالها للفراغات الأمنية التى نجمت عن الثورات وخاصة فى ليبيا، وكانت لها تأثيرات واضحة على الأمن الجزائرى، بسبب عدم قدرة الدولة على السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. عودة القاعدة وقد ظهر ذلك جليا فى عودة عمليات تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى وبعض الجماعات الإرهابية الأخرى التى أصبحت تنشط وتقوم بعمليات من جديد داخل الآراضى الجزائرية كان آخرها قتل عدد من العسكريين فى منطقة «تيزى وزو» أثناء عودتهم من تأمين الانتخابات الرئاسية فى العاصمة، فأبرزت هذه الأحداث الأهمية الإقليمية للجزائر ولكنها صعدت من التركيز على النواحى الأمنية فعاد الأمن للواجهة مرة أخرى. فلا تزال أهوال الحرب الأهلية التى عاشتها الجزائر خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي تخيم على مطالب التغيير فى هذه الدولة التى تولى الحكم فيها منذ استقلالها سبعة رؤساء لم يغادر أى منهم منصبه عبر صناديق الانتخابات. تفاهمات مؤسساتية كما تترك هذه الأزمة مستقبل الإصلاح فى هذه الدولة مرهون بالتفاهمات التى تحدث بين النخبة الحاكمة وخاصة بين القائمين على مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، ولا تطرح للقوى الشبابية آمالا كبيرة فى احتمالات تغيير النظام الحاكم، فقد تضطر هذه النخبة إلى اتخاذ بعض ترتيبات الانتقال السياسى خلال الولاية الرابعة للرئيس بوتفليقة (وقد تتخذ من مرض الرئيس بوتفليقة حجة لهذه الترتيبات). وهذا يتوقف على قوة تحركات القوى المعارضة والتى حددت عقب الانتخابات الرئاسية يوم 17 مايو 2014 موعدا لعقد مؤتمر لبحث آليات تحقيق الانتقال الديمقراطى فى البلاد يفضى إلى تغيير النظام الحاكم، وقد تلجأ النخبة الحاكمة إلى هذه الترتيبات بعد اختفاء الرئيس بوتفليقة من المشهد السياسى حتى تمنع الفوضى، وتحول دون وصول أشخاص بعيدين عن دائرة المصالح الخاصة بهذه النخبة، على نحو يدفع إلى القول إن الحالة الجزائرية تقاوم التأثيرات القادمة من رياح الثورات العربية، لأنها تعتبرها رياح خماسين وليست أجواء ربيع مزدهر ومستقر.