رغم وفاته فى ديسمبر الماضى، فإن صور الزعيم نيلسون مانديلا لا تزال تملأ كثيرا من الشوارع فى جنوب إفريقيا بل ازداد انتشارها خلال الفترة الأخيرة مع بدء إجراء الانتخابات العامة غدا وكأن مانديلا أحد المرشحين. ففى حين حرص حزب المؤتمرالوطنى الإفريقى الحاكم على استغلال صور وكلمات مانديلا الزعيم السابق للحزب وأول رئيس أسود لجنوب إفريقيا والتذكير بنضاله وتضحياته من أجل تحرير البلاد من الحكم العنصرى وذلك من أجل كسب تأييد الناخبين، لم تدخر المعارضة هى الأخرى جهدا فى استغلال مأثورات مانديلا هى الأخرى لإظهار كيف ابتعد وحاد الحزب الحاكم كثيرا عن مبادئ ورؤى ماديبا أو العظيم المبجل كما كان يلقب مانديلا. هذا التركيز على تاريخ و انجازات مانديلا لم يأت نتيجة اجراء الانتخابات العامة فقط ولكن أثاره أيضا احتفال جنوب إفريقيا قبل أيام بالذكرى العشرين لانهاء نظام الفصل العنصرى واجراء أول انتخابات ديمقراطية متعددة الأعراق فى 27 أبريل 1994. وهو ما دفع الكثيرين إلى طرح السؤال الأهم والذى قد تؤثر أجابته على نتائج الانتخابات: ما الذى تغير فى جنوب إفريقيا خلال العشرين عاما الماضية؟ أو بصورة أدق، ما الذى حققه حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى، خلال فترات الحكم الأربع الماضية والتى من المنتظر أن تتوج بخامسة خلال الانتخابات المقبلة، مما حلم به مانديلا ومناضلو الحرية والمساواة؟ من جانبه، يرى الحزب الحاكم بزعامة جاكوب زوما،الرئيس الحالى لجنوب إفريقيا، أنه قد حقق الكثير خلال العقدين الماضيين،فقد تم بناء أكثر من 3.7 مليون منزل جديد، وتوسيع نطاق الاعانات الاجتماعية لتشمل 16 مليون شخص، وانخفضت نسبة الأشخاص الذين يعيشون على دخل لا يتجاوز دولارين ونصف الدولار يوميا إلى 29% مقابل 42% فى عام 2000، كما شهدت قطاعات التعليم والرعاية الصحية ومكافحة الايدز طفرة واضحة. أما الوجه الأخر لجنوب إفريقيا والذى تراه القطاعات الفقيرة والمهمشة والمعارضة بوضوح فهو أن التمييز بسبب لون البشرة ربما يكون قد انتهى ولكن تم استبداله بالتمييز بسبب المال أوالفصل الطبقى. ووفقا لتقديرات البنك الدولى تعد جنوب إفريقيا من الدول الأقل مساواة فى الدخل فى العالم. ويشير المراقبون إلى أنه بعد عقدين من النمو الاقتصادى المتواضع لا تزال الأقلية من البيض الأعلى دخلا حيث يفوق دخل المواطنين البيض دخل المواطنين السود ست مرات، ومما يزيد الأوضاع تعقيدا استشراء الفساد فى البلاد بصورة غير مسبوقة. وكانت آخر حلقات مسلسل فضائح الفساد التى وصمت مسئولى حزب المؤتمر الحاكم الكشف عن قيام الرئيس جاكوب بانفاق نحو 20 مليون دولار من الأموال العامة لتطوير منزله الريفى فى منطقة نكاندلا. التمييز الاقتصادى والفساد أدى إلى تنامى الشعور بالاحباط والتهميش والظلم لدى المواطنين السود فى المناطق الفقيرة، والذى عبر عن نفسه فى صورة الاحتجاجات العنيفة للمطالبة بتوفير الخدمات الأساسية واستمرار حالة الغضب والاحتجاجات العنيفة يهدد باندلاع ثورة اجتماعية فى المستقبل على غرار الربيع العربى. كما يرى الخبراء أن الفجوة الاقتصادية والصراع الاجتماعى كانا السبب الرئيسى وراء ظهور حزب مناضلين من أجل الحرية الاقتصادية الذى يدعى أنه الوريث الشرعى للمبادئ الأصيلة لحزب المؤتمر الحاكم، وقد أسسه جوليس ماليما، الرئيس السابق لرابطة الشباب بحزب المؤتمر الحاكم، والذى فصل منه لسوء السلوك. وخلال السنوات القليلة الماضية نجح الحزب الذى يسعى لاعادة توزيع الثروات والحد من سيطرة الأقلية البيضاء على الأراضى الزراعية والمؤسسات الاقتصادية، فى حشد تأييد عشرات الآلاف من المواطنين ليصبح لاعبا سياسيا جديدا على الساحة. مشكلة أخرى تهدد مستقبل الحزب الحاكم واداءه خلال الانتخابات، وهى انهيار شعبيته بين صفوف الجيل الجديد أو من يطلق عليه أحرار المولد ،وهم الشباب الذين ولدوا بعد القضاء على نظام الفصل العنصرى فى عام 1994 والذين يحق لهم التصويت لأول مرة فى هذه الانتخابات،هؤلاء الشباب لم يعايشوا النضال من أجل الحرية وبالتالى لا يدينون بالولاء للحزب الحاكم ورموزه. ويلخص احد الشباب نظرة جيله، فى تحقيق لصحيفة الجارديان البريطانية، بقوله أيام المعجزات والدهشة المقترنة بمانديلا قد ولت. فى حين تصف شابة أخرى أهداف مسئولى حزب المؤتمر بأنها تقتصر على امتلاك المنازل الكبيرة والسيارات السريعة فى حين يعانى باقى الشعب ولا يجدون حتى الماء الصالح للشرب ويرى الكثير من الشباب أن ثورة مانديلا منقوصة بمعنى أنها ربما حققت التحرر السياسى ولكن التحرر الاقتصادى لم يتحقق بعد. ويجدون أن استمرار حزب المؤتمر فى الحكم لفترات متعاقبة قد أدى إلى تدهور الأمر ويحول دون انجاز أى اصلاح اقتصادى حقيقى، ولذا قرر الكثير من أبناء جيل أحرار المولد الاحجام عن التصويت فى الانتخابات. ورغم كل هذه المشاكل وتراجع شعبيته فإن المحللين يجمعون على أن حزب المؤتمر الحاكم هو الأوفر حظا للفوز فى الانتخابات ولكن ربما بعدد أصوات أقل. ويشير بعض المحللين إلى أن أنصار حزب المؤتمر مستعدون للتغاضى عن الفضائح والاخفاقات من أجل ما يعتبرونه «مكافأة الحزب على نضاله» من أجل تحريرهم من قيود العنصرية والذى يصفونه بأنه دين كبير لا يمكن سداده، ولكن لو أنهم راجعوا أوراق التاريخ لوجدوا أن زعيمهم العظيم المبجل قد حذر من تبدل الأحوال وقال فى أحد خطبه فى عام 1993 قبل شهور من اجراء اول انتخابات ديمقراطية فى البلاد، اذا فعل بكم حزب المؤتمر الوطنى الافريقى ما فعلته بكم الحكومة العنصرية فلتفعلوا معه ما فعلتموه مع الحكومة العنصرية (أى الاطاحة بها).