قرار الإدارة الأمريكية بإستئناف تقديم طائرات الأباتشى إلى مصر كان مؤجلا لبعض الوقت حتى يستقر لدى صانع القرار فى البيت الأبيض أن مسار خريطة المستقبل يمضى فى طريقه المحدد من قبل قوى ثورة 30 يونيو مشفوعاً بقناعة تكونت تدريجيا أن تنظيم جماعة الإخوان قد تلقى ضربات قاصمة وأن الكيان الأكبر فيما سمى بظاهرة «الإسلام السياسى» لم يعد يعول عليه كورقة ضغط فى العلاقات المصرية-الأمريكية بعد الإطاحة الشعبية بالرئيس السابق محمد مرسي. فى الشهور والأسابيع الأخيرة التى سبقت قرار إستنئاف المساعدات العسكرية وتقديم طائرات الأباتشى المستخدمة فى العمليات ضد الجماعات الإرهابية فى سيناء، استقبلت القاهرة عددا كبيرا من المسئولين والباحثين الأمريكيين بغية الإجابة عن أسئلة بعينها بشأن مستقبل الحكم فى مصر بعد إنتخابات الرئاسة الشهر المقبل وفرص تحقيق استقرار سريع للأوضاع الداخلية بالخطوة الأخيرة وهى الإنتخابات البرلمانية، وحقيقة الأمر أن الكثيرين من الباحثين الأمريكيين مازالوا يحملون قناعات بعينها حيال الوضع الراهن فى مصر ويتشككون فى الشرعية الديمقراطية لمن سوف ينتخبه الشعب المصرى فى المستقبل القريب سواء فى الرئاسة أو البرلمان وعولت بعض المراكز البحثية على امكانية تأخير الإدارة الأمريكية لقرارها الخاص باستئناف المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى ما بعد الانتخابات لكن قرون الاستشعار فى البيت الأبيض رصدت تحولات مهمة فى مواقف السياسة الخارجية المصرية تتجاوز مجرد التقارب المصري الروسى أو الدبلوماسية المتعددة الأطراف التى تنتهجها القاهرة فى الشهور الأخيرة إلى إمكانية ظهور رؤية استراتيجية مصرية خالصة تشكل عقبة أمام جملة من المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط. وقد برهنت الزيارات المتتالية لمسئولين أمريكيين من الإدارة والكونجرس على أن غالبية المصريين فى صف التحولات الأخيرة والأهم أن تحدى الإرهاب يزحف على الداخل المصرى من جماعات تشكل تهديداً حقيقيا للمصالح المشتركة ولا يجب أن تبقى الولاياتالمتحدة فى الجانب الخطأ بالاستمرار فى سياسة ملتبسة تبدو متعاطفة مع جماعة سياسية تقترب حثيثا من تنظيمات الإرهاب الدولى التى تناصب واشنطن العداء لأكثر من عشر سنوات فى الشرق الأوسط. ويبدو مما يجرى على الساحة الغربية أن هناك مراجعات جدية حول العلاقة بين الحكومات الغربية والحركات المتشددة وآخر تلك المواقف إعلان تونى بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق أن الغرب يجب أن ينحى خلافاته مع الصين وروسيا جانبا وأن يلتفت إلى «التطرف الإسلامي»، وهو ما يخالف ما سبق أن توسط بشأنه قبل شهور عندما قدم إلى القاهرة محاولاً إثناء السلطة الحالية عن مواقفها تجاه «الإخوان». وتلك المواقف مع بداية المراجعات فى بريطانيا لمواقف الجماعة وقياداتها وأفكارها وبداية تحركات شبيهة فى عدد من العواصم الكبرى فى الغرب يعنى أن أفول نجم الجماعة فى مصر يحمل بوادر تغيرات على الساحة الدولية استوجب تحركات دبلوماسية مصرية لسد الفجوة التى نتجت عن قصور التواصل مع الدوائر الرسمية وغير الرسمية فى الغرب فى الفترة التى أعقبت 30 يونيو وأدت إلى البناء على صورة سلبية رسمتها القوى الرافضة للثورة الشعبية فى مصر وأنصارهم فى دوائر مراكز الأبحاث وجامعات معروفة فى الولاياتالمتحدة. وقد جاء الإعلان الأمريكى الأخير وترحيب الكونجرس باستئناف المساعدات فى توقيت ملفت حيث مدير جهاز المخابرات المصرية اللواء محمد فريد التهامى فى واشنطن يلحقه اليوم وزير الخارجية نبيل فهمى فيما يجرى وزير الدفاع الأمريكى شاك هيجل اتصالات بوزير الدفاع المصرى الفريق صدقى صبحى على فترات متقاربة وهو ما يعنى أن الجانب الأمريكى قد أستوعب دروس الشهور العشرة الماضية والتى شهدت فتورا فى العلاقات بين البلدين لم يحدث فى ثلاثين عاما رغم تهوين البعض من الخلافات القائمة واصرارهم على أن قالب العلاقات المصرية-الأمريكية يسير على نهج واحد مهما تغيرت الإدارات أو قامت ثورات. بلاشك، لعبت السعودية والإمارات ومواقفها المتشددة إزاء جماعة الإخوان وقطر دوراً حيويا فى الموقف الأمريكى الجديد بعد أن رسمت تلك الدول خطا فاصلا فى العلاقات الثنائية مع قطر بتأييدها للجماعة وإيواء قياداتها وهو موقف ترك أثراً فى نظرة واشنطن لتصاعد المواقف المصرية والخليجية حيث تعين على الولاياتالمتحدة أن تحدد أين تقف فى تلك الأزمة وتعين عليها أيضا أن تحد من مساحات رمادية فى العلاقات الثنائية مع الدول المعنية بتفاقم خطر الإرهاب وتعرف أن ورقة التيارات المتطرفة لن تجدى نفعا فى ظل بلورة مصر والخليج لرؤية واضحة عن المخاطر التى تتهدد الأمن القومي. زيارة نبيل فهمى وزير الخارجية على اتساعها من الشرق إلى الغرب (سان فرانسيسكو) تعكس بداية مرحلة جديدة من التواصل مع أطراف عديدة فى المجتمع الأمريكى لا تقتصر على العاصمة واشنطن وحدها وهو تحرك جيد يعنى أن مصر تملك حرية حركة أوسع من مجرد الحديث فى غرف الخارجية الأمريكية ومراكز الأبحاث الأخرى، حيث لمجتمع واشنطن حسابات كثيرة بعضها يستعصى على المرء فهمه وبعضها ضد تصوراتنا فى القضايا الوطنية. وبحسابات أوسع، الملف المصرى يدخل ضمن مراجعات أوسع لأداء السياسة الخارجية الأمريكية وهو ما يظهر اليوم فى مقالات كبار الكتاب الأمريكيين المنتقدين للرئيس باراك أوباما بسبب التخبط فى سوريا وعملية السلام وأوكرانيا والقرم وقضايا دولية أخرى.