من المؤكد أن الوصول إلي ميادين الابتكار والاختراع للوقوف في مصاف الدول المتقدمة لا يتم إلا من خلال البحث العلمي؛ القاطرة التي تجر عربات العلم إلي تلك الميادين الرحبة ، وبإمعان النظر في منظومة البحث العلمي في مصر نجد أن ثمة العديد من المشكلات التي تقف حجر عثرة في طريق البحث العلمي وتعرقل مسيرته ؛ كغياب التخطيط وضعف الإمكانات ، وعدم ربطه بسوق الإنتاج ، فضلا عن هجرة كثير من الباحثين النوابغ خارج مصر ، وغيرها من المشكلات التي نتعرف عليها من خلال هذا التحقيق، والتي كانت سببا في حصول مصر أخيرا علي المركز 129 في جودة التعليم من إجمالي 148 . في البداية يؤكد الدكتور أشرف دهبة أستاذ التخدير بجامعة جراتس بالنمسا أن البحث العلمي لابد أن يقترن بالتطبيق ، كما الحال في كل دول العالم المتقدمة ، فمراكز الأبحاث وراءها قلاع صناعية تطبق ما وصلت إليه الأبحاث ، حيث إن البحث قيمة علمية وعائد مادي لو أحسن تطبيقه مما يعود علي البلد بالنفع، أما في مصر فليست عندنا آليات تمكننا من الاستفادة من البحث ، ومن ثم يظل عديم القيمة ، منحصرا في رسائل الماجستير والدكتوراه بصورة نظرية دون ترجمة حقيقية وتطبيق علي أرض الواقع. وانه في كل دول العالم لابد ان يمر بأربع مراحل : الملاحظة التي تتحول إلي فكرة ثم إلي نظرية أو افتراض علمي وتنتهي بمرحلة الإثبات العلمي ، أما في مصر فلا يتعدي مرحلة الملاحظة وفقط دون المرور بباقي المراحل مما يؤكد القول بعدم وجوده في مصر . و أن الانحياز وعدم الحيادية من أهم المشاكل التي تواجه البحث العلمي ايضا « كلام في الهواء » ويشير الدكتور محمد أحمد أحمد علي أستاذ الفيروسات ورئيس شعبة بحوث البيئة بالمركز القومي للبحوث الي أنه مع كل وزارة بحث علمي جديدة نضع خطة ونطرح إستراتيجية ولا ننفذ منها شيئا والمحصلة ( محلك سر ) فكيف نتكلم عن خطة ونحن لا نملك بيئة ولا بنية أساسية للبحث العلمي، فمنذ 30 سنة مدة عملي في ميدان البحث لم أر خطة وآليات تنفيذها ، بل يتسم نظام العمل بالعشوائية والتخبط , ومن أهم مشاكل البحث العلمي في مصر عدم وجود إدارة جيدة، فكل ادارة تأتي ترفع كثيرا من الشعارات مثل ربط البحث بالصناعة، ورفع الميزانية ، التي إن كانت قلتها مشكلة فالمشكلة الأكبر في كيفية توزيعها لتسيير عجلة البحث، حيث يضيع معظمها في الحوافز والمرتبات لا في الإنفاق علي التجارب والأبحاث ، فلابد للأبحاث من توافر ميزانية مستقلة عن ميزانية الرواتب ومستحقات العاملين في ميدان البحث.وأن ما يدل علي سوء الإدارة عدم وجود مشاريع موجهة كما يحدث في أوروبا وأمريكا حيث يتم طرح المشكلة فتتقدم الجهات البحثية التي يمكن ان تشارك في حلها وتعمل وتنتج، أما في مصر فالعناوين تكون فضفاضة ولا تطرح علي المتخصصين ومن ثم لا نصل إلي نتائج ، و نحن نستورد بمقدار 150 مليون جنيه سنويا إنزيمات خاصة بطرق التشخيص تحتاجها كل معامل البيولوجيا ، فلماذا لا نطلب من فريق بحثي أسوة بالدول المتقدمة إنتاج هذا الإنزيم وبالتالي نوفر مبلغ ال 150 مليون جنيه، ولو تقاضي هذا الفريق مبلغ 2مليون أو حتي 5 فباقي ال150 سيكون وفرا للبلد، أريد أن أقول عند وجود مشكلة لابد أن نطرحها علي الفريق البحثي المتخصص ونعطيه ما يطلبه من دون مقابل ( فصال ) حتي ينتج ويبتكر، وفي النهاية نكون نحن الكاسب الوحيد بما نوفره من فارق وهذا معني ربط البحث بالصناعة. ويؤكد الدكتور علي أن شعار » الشراء بأرخص الأسعار »من أهم مشاكل البحث العلمي في المركز القومي للبحوث بل وفي مصر عامة ، فمثلا أمامي 3 أجهزة : صيني رخيص وياباني وألماني ،تفرض عليك الإدارة السيئة شراء الصيني الأرخص سعرا رغم عدم دقة نتائجه وعدم وجود مراكز صيانة محترمة إذا حدث به عطل ،و بالتالي تكون النتيجة أبحاثا دون المستوي،والحل يتمثل في إزالة شعار ( الشراء بأرخص الأسعار)، واستبداله بشعار ( اشتر الأكفأ ) للحصول علي نتائج جيدة, و من مشاكل البحث في مصر أيضا مركزية القرار الذي يعوق العمل ويعطل الإنتاج ،فضلا عن السرقات العلمية التي تفرز باحثين غير مؤهلين علميا ، هذا بالإضافة إلي تهالك الأجهزة وعدم توافر الفنيين، وعدم وجود معامل مركزية مطابقة للمواصفات تؤدي دورها المنوط بل هي مجرد »منظر» فقط،، و تغريد كل إدارة بحثية خارج السرب ، فكل إدارة جديدة تأتي بسياسة جديدة دون إتمام ما بدأته السابقة ،مما يؤكد افتقاد البحث العلمي للتخطيط . « مناخ بحثي » ومن جانبه يوضح الدكتور عبد العظيم فاروق جاد أستاذ الهندسة الوراثية بجامعة برلين والمتخرج في كلية علوم بنها أن البحث العلمي لا يقوم إلا بالكوادر التي تحتاج إلي مناخ بحثي ملائم تتوافر له الإمكانات والرواتب العالية والأمان وهذا لا يتوافر في مصر مقارنة بالدول المتقدمة مما يعود بأثره السيئ علي البحث، نضرب علي ذلك مثالا : لو كان عندنا باحثان متماثلان أرسلنا أحدهما إلي ألمانيا والآخر ظل في مصر بالتأكيد سيتفوق الذي سافر لتوافر المناخ البحثي هناك، ولا نتحجج بالفقر أو الغني فهناك دول فقيرة مثل الصين استقطبت معظم كوادرها من الخارج ووفرت لهم مناخا بحثيا مناسبا فقدحوا زناد أفكارهم وأخرجوا بحوثا رائدة صارت بفضلها الصين من أقوي دول العالم. وكذلك الحال بالنسبة للهند فبرغم أنها واحدة من دول العالم الثالث إلا أنها شهدت نموا سريعا في مجال إنتاج وتطوير التكنولوجيا والبرمجيات ، حتي أصبح معظم مدراء شركات التكنولوجيا في أمريكا وأوروبا من الهنود. ويضيف الدكتور جاد أن آلاف الأبحاث في مصر مرصوصة علي الأرفف وحبيسة الأدراج لا تري النور بفعل البيروقراطية والتخلف ولا تخرج من محبسها إلا لنيل الدرجات العلمية أو الترقي ، اما النهضة العلمية فلا تخطر للمسئولين علي بال مما يدفع إلي هجرة الباحثين وأنا واحد منهم خارج مصر بحثا عن البيئة والمناخ المناسبين.وأن المئات من أمثال د. أحمد زويل ود. مصطفي السيد نزحوا خارج البلاد لعدم توافر بيئة البحث ، ويحلمون بالعودة بعد تحسن الأحوال والتي تحتاج إلي قرار سياسي ، فالعالم يحتاج إلي جو من الهدوء يمكنه من الابتكار. أما ما يحدث في الجامعات من فوضي ومظاهرات وتكسير للمعامل والمدرجات شيء يدعو للأسي ولا يساعد علي الإبداع 0 » العلوم الطبيعية » ومن جانبه يري الدكتور مصطفي النشار أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة أنه من الأخطاء الشائعة بالنسبة للبحث العلمي في مصر ظن الناس أنه مقصور علي العلوم الطبيعية ، بينما يثبت الواقع أن قصور البحث العلمي في العلوم الإنسانية سبب رئيسي لمشاكلنا لأن غياب دعم الدولة له جعل كثيرا من القائمين عليه يكتفون بالنقل عن البحوث الأجنبية الصادرة عن أناس يختلف واقعهم عن واقعنا وثقافتهم عن ثقافتنا ومن ثم لا تتناسب النتائج التي يصلون إليها وطبيعة مجتمعنا لأنها وليدة بيئات تختلف عن بيئاتنا ، لهذا فإن أخذ الواقع في الاعتبار يكون أكثر فائدة وأفضل من النقل عن بحوث أجنبية 0. ويقول الدكتور النشار إذا كنا نؤكد تقدم الغرب علينا في مجال العلوم الطبيعة التي حقق فيها نجاحات ملموسة ، فلماذا لا نفتش عن مجال آخر نحقق فيه ريادتنا وتفوقنا ، فمما لاشك فيه لو أعطينا العلوم الإنسانية اهتماما خلال الفترة المقبلة يماثل أو يزيد علي اهتمامنا بالعلوم الطبيعية بالتأكيد سنحصل علي مردود قوي ومفيد . وناشد د. النشار القائمين علي البحث إصدار دوريات علمية في مجال العلوم الإنسانية، تصدر باللغة العربية وتترجم إلي لغات أجنبية لتحقيق الريادة والدخول في حلبة المنافسة والصراع خاصة أن هناك العديد من الأبحاث التي تثبت تفوقنا في هذا الميدان ولكنها حبيسة الأدراج ، مكدسة علي الأرفف برغم أنها تتطرق لمشاكل تخص بيئتنا وحدنا مثل مشكلة أطفال الشوارع ، والتسول . » بالغة التخلف » بينما يري الدكتور محمد الشرقاوي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بدار العلوم جامعة القاهرة أن حالة البحث العلمي في مصر بالغة التخلف ولا تليق بمصر ذات الحضارة والتاريخ والتي كانت معلمة للدنيا في شتي الميادين فترات طويلة من التاريخ الإنساني ، ومن أبرز المشاكل التي يعاني منها البحث العلمي ضعف الميزانية المرصودة له ، فأرقام هذه الميزانية تمثل فضيحة لمصر إذ ما قورنت بالدول المتقدمة أو إسرائيل أو حتي دول غير بترولية كالأردن والمغرب، فمكافأة مناقشة رسالة الدكتوراه أو الماجستير والتي يتقاضاها الأستاذ نظير جهد يستغرق شهرا علي الأقل في مراجعة الرسالة 75 جنيها ، بينما مكافأة تحكيم بحوث الترقية لا تزيد علي 30 جنيها، أما تصحيح ورقة إجابة طالب الدراسات العليا فتصل إلي 80 قرشا، وأن ضعف الميزانية لا يتعلق بمستحقات الأساتذة فقط بل يمتد ليشمل البنية الأساسية التي يعتمد عليها الباحثون في إنتاج أبحاثهم والمتمثلة في المكتبات والدوريات العلمية والمعامل.. إلخ) بحسبة بسيطة لا يتعدي نصيب الباحث في السنة 100 جنيه فكيف يتوقع المجتمع من الباحثين إنتاجا علميا في ظل هذه الميزانية الهزيلة.