أكثر من عشرين عاما مضت على الرحيل الفاجع لجمال حمدان، مختنقا ومحترقا فى شقته، وبسبب هذه الوفاة الفاجعة وربما بسبب التجاهل الطويل له قبل ذلك، والإحساس الفائق بدرجة من التقصير أو الذنب تجاهه، أطلقت عدة أساطير حوله، مثل أن “الموساد” هو الذى دبر ونفذ عملية الوفاة على هذا النحو، ومثل أن جمال حمدان كان يعد موسوعة حول إسرائيل والصهيونية، ثم قيل إن الموسوعة التى كان بصدد إعدادها حول “الإسلام السياسى” وطبقا لهذا التصور تعدى الأمر ليصبح جهاز الأمن المصرى هو المسئول عن وفاة د. حمدان، وهكذا أخذتنا تلك الأساطير لنختلف حولها، تكذيبا أو تصديقا, نفيا أو إثباتا , وتجاهلنا أعمال حمدان التى بين أيدينا، ولم تقم مناقشات علمية ونقدية حولها، إلا فيما ندر، أذكر هنا محاولة الراحل د. أحمد أبوزيد بالنسبة للجزء الخاص بسيناء فى موسوعة “شخصية مصر». وانتقل الأمر إلى بعض أفراد أسرة حمدان، حتى إن أحد أخوته صرح لصحيفة يومية، منذ شهور، معلنا غضبه من أن الدولة بعد ثورتى "25 يناير - 30 يونيو» لم تفتح تحقيقا حول وفاة د. جمال حمدان، وما أعرفه أن تصريح الدفن لم يصدر إلا بعد أن أقرت أسرة د. حمدان فى قسم الدقى أنه لا توجد لديهم «أى شبهة جنائية بالوفاة»، ولم تتقدم الأسرة بطلب تحقيق فى الوفاة لا يومها ولا الآن، كما أنه لم تظهر أدلة أو مؤشرات قوية تفرض على النيابة العامة إعادة التحقيق، أوبالأحرى فتح تحقيق حول الوفاة، لأنه لم يقم التحقيق أصلا، بناء على إقرار الأسرة السابق. حين وقعت الوفاة الفاجعة والمفاجئة كنت وقتها “المحرر الأدبى والثقافى” لمجلة “المصور”، لذا سارعت بالتوجه إلى منزل د. حمدان وعاينت الشقة، ثم انتقلت إلى مستشفى أم المصريين، حيث وضع الجثمان فى ثلاجة، ومن هناك إلى قسم الدقى، حيث محضر الحادث. فى البيت، التقيت بواب العمارة، وكان هو صلة د. حمدان بالعالم الخارجى إلى حد كبير، يشترى له مطالبه اليومية و الصحف التى يريدها.. وجمع البواب أوراق د. حمدان الخاصة وتسلمها شقيقه اللواء عبدالعظيم، وكانت هذه الأوراق عبارة عن عدة كراسات كان يكتب فيها د. حمدان، وما كان فى الكراسات خواطر وأفكار عابرة، وتكشف هذه الكراسات عن أن الكتابة كانت عالم د. حمدان فى الفترة الأخيرة، والواقع أن الخواطر التى دونها تكشف عن قدر كبير من المرارة تكونت داخله، المرارة من تخصصه العلمى “علم الجغرافيا” والمرارة من زملائه الجغرافيين، وجميعهم فى ذمة الله، عدا أحدهم، د. صفى الدين أبوالعز، أمد الله فى عمره، وهو الآن يقف حارسا وراعيا على جمعيته الجغرافية، فضلا عن المرارة السياسية البالغة من الرئيس السادات وخلفه الرئيس مبارك، والمرارة الأشد من المتأسلمين، وقتها نشرت نصوصا فى “المصور” عن تلك الخواطر الأخيرة. مرارته من التخصص، لم تكن لأسباب علمية، بل لأن أساتذة الجغرافيا لا يختار منهم وزراء، وأن الحالة الوحيدة لاختيار وزير جغرافى كانت من نصيب د. محمد عوض محمد، بينما سائر التخصصات الأخرى فى كلية الآداب يختار منهم وزراء، هذا الموقف ملأه يأسا وإحباطا من ذلك العلم، والحقيقة أن ذلك لا يعيب التخصص بقدر ما يعيب عملية اختيار الوزراء، أى الموقف السياسى، وفضلا عن ذلك فإن اختيار وزير من تخصص معين لا يحمل شيئا كبيرا لهذا التخصص، ولا تقاس قيمة التخصص ولا المتخصص باختياره وزيرا، من يدرس حياة د. طه حسين يعرف أن فترة عمله وزيرا، كانت مرحلة عابرة فى حياته، وإن كان أنجز فى موقعه، وهو بالفعل أنجز، فإن ذلك يعود لقوة شخصيته وامتلاكه مشروعا ثقافيا تنويريا وليس بسبب تخصصه الفرعى فى كلية الآداب كأستاذ، لكن المسألة أن د. حمدان شغل نفسه بعد 5 يونيو 1967 بأن يكون وزيرا، رغم أن ذلك كان شبه مستحيل طبقا لمعايير اختيار الوزراء آنذاك، لم يكن عضوا بالاتحاد الاشتراكى العربى ولا بالتنظيم الطليعى، ولم يكن هناك وزير يعين من خارج هاتين الدائرتين، المشكلة أن هناك من أوحى له وقتها بإمكانية أن يعين وزيرا، ويبدو أن الرجل وثق بما قيل له، ولما لم يتحقق أضيف إلى إحباطه إحباط جديد. أما موقفه من مبارك، فكان امتدادا لموقفه من السادات، هو كره السادات كراهية شديدة بسبب سياسة الانفتاح الاقتصادى ومعاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1979، واعتبر أن مبارك امتداد « غبى» للسادات، وفى أوراقه أوصاف لمبارك يصعب أن أذكرها هنا , والحقيقة أن موقف جمال حمدان من التصالح مع إسرائيل كان جزئيا، وهذا يبدو فى وضوح من كتابه عن حرب أكتوبر، والأصل فى هذا الكتاب عدة مقالات مطولة كتبها فى مجلة «المصور» بدءا من الأسبوع الثانى لحرب أكتوبر، كان المقال يصل إلى ثلاث صفحات بالمجلة، حول ما جرى ويجرى فى أرض المعركة، وكانت تحليلاته فيها نظرية، بدا منها أنه لا يتابع بدقة ما يجرى على الجبهة فى سيناء، خاصة بعد ثغرة الدفرسوار، وكان سعيدا ومبهورا بعملية العبور العظيم، يوم 6 أكتوبر 1973، غير أنه ذهب بعيدا فى تناوله وتصوره أن هذه الحرب سوف تؤدى إلى تحرير كامل الأراضى العربية، ولم تكن حقائق القوة ولا الموازين العالمية تسمح بذلك، وهو فى بعض فقرات الكتاب يبدى وعيا بين السطور بحقيقة أن إسرائيل نالت اعترافا من الأممالمتحدة، وربما لو أن الرئيس السادات وقتها لم يدخل عملية السلام بأسلوبه المفضل «سياسة الصدمات» ولم يدخل العملية من البداية من الباب المخابراتى - السرى، وحدث نقاش حقيقى حول هذه القضية لاختلف الأمر بعض الشئ فى تقبل هذه العملية فى حينها، لكن السادات اختار سياسة الصدمة بزيارة القدس، وحدثت الصدمة الكبرى فى حياة وعقل د. جمال حمدان، كثير من المثقفين رفضوا زيارة الرئيس السادات وقتها، لكن لم يتعرضوا لصدمة د. حمدان، اختار بعضهم المعارضة المباشرة والاحتجاج، واختار البعض الآخر الكتابة، اختار هؤلاء الاحتجاج والتعبير العلنى عن الرفض بينما د. حمدان أغلق بابه عليه وراح يجتر الصدمة وحيدا، لذا لم يشعر بآلامه إلا من اقترب منه، وكان عددهم محدودا، لكنه لم يشارك فى أى معارضة علنية ولا فى الاجتماعات والندوات التى عقدت للتنديد بكامب ديفيد، ومن ثم فحين راح السادات يعتقل المعارضين فى سبتمبر 1981، لم يكن جمال حمدان من بينهم. إذ لم تشعر دولة السادات و أجهزته بصدمته، ابتلعها داخله وراح يتألم ويخرج زفراته فى كراساته الخاصة.. ترى لو امتد به العمر ماذا كان يفعل بهذه الكراسات؟! تكشف كراساته أيضا موقفه من تيار "الإسلام السياسى"، وكان يرفض هذا التيار ورموزه، جملة وتفصيلا، وقتها كان إرهاب الثمانينيات والتسعينيات بدأ، ومن يقرأ خواطر حمدان وآراءه وتحذيراته من مخاطر جماعات التطرف، ويتابع ما يجرى اليوم على أرض مصر، يشعر أن الرجل مازال بيننا. تأمل الجماعات التى تطلق على نفسها جماعات الإلحاد والملحدين، وضخامة أعدادهم، هذه الظاهرة نبه حمدان إلى إمكان قيامها من جراء عنف وجهامة المتشددين و المتطرفين. رحم الله جمال حمدان، عاش مخلصا لما آمن به وصادقا مع نفسه وفيا لأفكاره.