يبدو أن قطر مصممة على الاستمرار فى سياسة المناورة. فتارة تخرج من الدوحة معلومات تفيد بعدم استبعاد التجاوب مع الضغوط الخليجية التى تمارس عليها، بسبب رفض تدخلها فى شئون بعض الدول العربية. وتارة أخرى تظهر فى صورة من يتحدى جيرانه، وتمضى عكس الرياح الخليجية. قبل يومين استقبلت الدوحة وفدا من كبار المسئولين الأمنيين فى إيران، لإجراء مباحثات مع إخوانهم القطريين، حول إنشاء مجموعات عمل أمنية مشتركة بين البلدين. وقد تكون هذه الخطوة طبيعية، لو جرت فى ظروف عادية، لكن لأنها جاءت فى أجواء ملبدة بالغيوم السياسية، فالتعامل معها يجب أن يخضع للتحليل الدقيق، خاصة أن هذا التحرك سبقته خطوات مماثلة خلال الأسابيع الماضية، أى بعد اتخاذ السعودية والإمارات والبحرين قرارا بسحب سفرائهم من الدوحة. فوزارة الخارجية الإيرانية أكدت مع الخارجية القطرية فى مارس الماضى «الحاجة الماسة لتوسيع العلاقات، واستعادة السلام والهدوء فى المنطقة»، بما يعنى أن الأمور مرجح أن تسير نحو مزيد من التفاهم فى قضايا وملفات، يمكن أن تقلق دولا أخرى. الدوحة التى تمشى على حبال من الأشواك والخطوط المتوازية منذ بضعة أشهر، وجدت أن «البعبع الإيرانى» قد يكون ضامنا جديدا لحمايتها، ويبعد عنها شبح الوقوع تحت قائمة طويلة من الضغوط الخليجية. وبدت القيادة القطرية عازمة على المضى فى هذا الطريق، ليس كمحاولة لتخفيف ما يمارس عليها من ضغوط من قبل جيرانها فقط، لكن كتوجه يوفر لها قدرا من الردع الإستراتيجي، ضد من يحاولون تحجيم طموحاتها والحد من جموحها السياسى فى المنطقة. وعندما قررت الدوحة أن تولى وجهها شطر طهران، كانت تعلم أن هناك استجابة إيرانية كبيرة، لا تقل عن الحاجة القطرية. فطهران لديها أحلام وأمنيات لزعامة الخليج، ساعد على عدم تحقيقها تكاتف الموقف الجماعى ضدها، ورفض الولاياتالمتحدة استعراض العضلات الذى كانت تقوم به إيران من وقت لآخر. لكن عندما بدأ التفسخ يصيب الجسد الخليجي، والولاياتالمتحدة ترخى حبالها معها، أصبحت الفرصة سانحة للتوسع نحو الضفة المقابلة من الخليج العربى. عندما وقع اختيار قطر على بازار إيران، لم يكن فى ذهنها فقط أمنيات طهران الطوباوية المتعلقة بعودة أمجادها الفارسية، بل تأكدها من عدم جدوى الخيارات المتاحة عربيا وغربيا. فالجولة التى قام بها الشيخ تميم أمير قطر فى كل من، الأردن والسودان وتونس والجزائر، لم تكن حصيلتها الإيجابية تسمح بمساحة جديدة للمراوغة، ولم يحصل على التعاطف أو الدعم السياسى الكافى الذى يساعده على مناطحة خصومه والتخفيف من معاناته السياسية. كما أن تركيا القلقة من تضخم دور المعارضة عندها لم تبد استعدادا جيدا للشد من عضد تميم عمليا، لأن مصالحها الخليجية تمثل أحد عوامل كبح التمادى فى دعم توجهاته. وحتى بريطانيا، التى كان يعول عليها فى ورقة استقبال الهاربين من فلول الإخوان، تجرى تحقيقات قاسية فى شأن أعضاء الجماعة الذين يقيمون على أراضيها. المهم أن وقوع المزاد القطرى على إيران، ينطوى على عدم الرغبة فى التغيير الحقيقى فى السياسات القطرية، وينسف الوعود التى قطعها أمير قطر على نفسه مع جيرانه، بشأن تنفيذ ما تم من تفاهمات خلف الأبواب المغلقة. ويؤكد أنه عازم على أن تكون له مظلة إقليمية، حتى لو كانت هناك ملامح خلاف معها فى بعض الملفات. فإيران تقف فى خندق مناهض لقطر فى الأزمة السورية. فالأولى داعمة الأسد والثانية معارضة له. وكلاهما كان دعمه يتسم بالمبالغة. وهو ما يشير فى النهاية إلى تبدل فى سياسة قطر حيال الأسد. وقد ظهرت معالم ذلك فى المعلومات التى ترددت حول وجود اتصالات بين الدوحة ودمشق. الأمر الذى يتسق أيضا مع الليونة الأمريكية الجديدة مع الأسد. وإذا كانت أضلاع هذا المثلث (الدوحةوطهران وواشنطن) تلتقى فى سوريا، فهى ربما تتقابل فى نقطة مثيرة أخري، لمواجهة مثلث السعودية والإمارات ومصر، الذى بدأ يتبلور ويتصاعد، حيث فرضته ظروف المرحلة الدقيقة التى تعيشها المنطقة. الخطورة أن المسألة يمكن أن تتجاوز حساب المثلثات السابق، وتدخل فى خندق استقطابات وعرة، تصل إلى حد الاشتعال واللعب بالنار. فما تقوم به الدوحة نحو إيران، ربما يفجر براكين من الخلافات لن تقتصر على الأعضاء الظاهرين الآن، بل من المرجح أن تدخل على الخطوط دول وحركات متباينة، تحول التصورات النظرية إلى استراتيجيات عملية. وإذا نجحت قطر فى توثيق تحالفها مع إيران، سوف تخسر الدوحة إسرائيل، لأن عداء تل أبيب مع طهران لا يحتمل مساومات أو مناورات، تدخل فى باب العبثية. ومهما بالغت الولاياتالمتحدة فى مرونتها مع إيران، فإن خشونتها معها سوف تكون شديدة، عندما تشعر أن أمن إسرائيل معرض للخطر. من جهة ثانية، سوف يؤثر غزل قطر فى إيران على مصالحها المباشرة، وقد يفقدها عمقها الخليجي- العربى، ويضعها تحت وابل من التناقضات المحلية، بشكل يزيد من مشكلاتها الاجتماعية. كما أن انضمام الدوحة فى حلف واحد مع طهران، سيجر تابعيها الإخوان وحماس، ويخلط الأوراق فى سوريا، ويصبح من الصعوبة التمييز بين الفواصل الحركية هناك. والأخطر أن هذا التوجه ينزع ورقة تعميق الخلاف بين السنة والشيعة، وينتقل ما نراه من صراع أخذ شكلا مذهبيا، إلى آخر يأخذ شكلا مصلحيا، تتهاوى معه بعض الركائز القوية. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل