رحب بعض الزملاء من أساتذة الطب النفسى المرموقين بأهمية التقييم النفسى الإجبارى للمتقدمين لانتخابات رئاسة الجمهورية؛ و قد تم ذلك بالفعل وهو انفراد مصرى خالص لم تعرفه بلاد العالم طرا وقاطبة. واستند بعض هؤلاء الزملاء الأفاضل إلى حرصهم على تجنيب البلاد أن يحكمها من يعانى من عوار عقلى يؤثر على قراراته ملمحين إلى أن الرئيس السابق الدكتور محمد مرسى كان يعانى من خلل عصبى نتيجة لجراحة أجراها فى المخ. ولقد راجعت بدقة جميع البيانات الرسمية الصادرة عن قيادة القوات المسلحة بشأن مبررات عزل الرئيس السابق فلم أجد أى إشارة لتلك الجراحة التى أجراها؛ بل كانت جميع المبررات سياسية تماما وتدور حول غلبة انتمائه الفكرى لجماعة الإخوان المسلمين على أى انتماءات أخري. ولسنا بصدد إعادة مناقشة الأمر بعد أن وقع بالفعل؛ كما أننا لسنا مؤهلين بحكم التخصص لمناقشة مدى المشروعية القانونية لإضافة شروط للترشح لرئاسة الجمهورية لم ترد فى الدستور؛ كما أننا لسنا بصدد مناقشة فكرة الاستبعاد من المنبع ومدى اتفاقها مع الأصول الديمقراطية؛ ولكننا وفى نطاق تخصصنا الدقيق؛ وتوقعا لاحتمالية استمرار تلك التجربة فى المستقبل، نحاول الإجابة على سؤال محدد: هل يمكن لفحوص نفسية مهما تكن دقتها أن تميز بين أصحاب الأفكار المختلفة؟ أم أن كل تيار فكرى يضم بين صفوفه جميع أنماط الشخصية المتراوحة بين الصحة و المرض؟ يعد مارك ساجمان Marc Sageman الطبيب النفسى و عضو معهد بحوث السياسة الخارجية الأمريكى الذى عمل فى صفوف المخابرات الأمريكية فى أفغانستان فى الفترة من 1987-1989 من أهم من حاولوا تقديم دراسة رقمية إحصائية تكشف عن الملامح النفسية لأولئك الإرهابيين، وقد أصدر عام 2004 كتابا بعنوان «فهم شبكات الإرهاب» أصبح مرجعا فى هذا المجال، كما كتب فصلا بعنوان «سيكولوجية إرهابيى القاعدة: البزوغ من الجهاد السلفى العالمي» ضمن كتاب مرجعى صدر 2006 بعنوان «علم النفس العسكرى والعيادى والتطبيقات العملية». كتب ساجمان فى مقدمة الفصل المشار إليه أنه بعد أن أولى ظهره للعمل المخابراتى عام 1989 وتفرغ لمهنته كطبيب نفسى فى مجال الطب الشرعي، وظن أن علاقته بالإرهاب والإرهابيين قد انتهت؛ إذ به إثر أحداث 11 سبتمبر 2001 يحس أن عليه أن يفعل شيئا ما خاصة أن ما كان يتردد على ألسنة العامة آنذاك لم يكن متسقا مع ما خلص إليه من واقع خبراته الشخصية فى المجال، وحين نظر ساجمان للبحوث المتوافرة فى المجال فيما يتعلق بمرتكبى جريمة 11 سبتمبر، وجد نفسه حيال ركام هائل من النظريات والآراء والانطباعات الشخصية، ولكنه لم يجد تجميعا منظما للبيانات الواقعية الخاصة بممارسى العمليات الإرهابية. قام ساجمان بتحليل ملفات المحاكمة التى انعقدت فى نيويورك عام 2001 واستمرت 72 يوما وتجاوزت صفحات التحقيق مع المتهمين بتفجير السفارة الأمريكية عام 1988 ما يقارب 9000 صفحة تتضمن كما هائلا من المعلومات عن حياة هؤلاء المتهمين، بالإضافة إلى نحو 400 سيرة حياة ذاتية تفصيلية وأسفر تحليله لتلك البيانات عن أنهم جميعا أسوياء تماما من الناحيتين النفسية والاجتماعية؛ فثلاثة أرباع أفراد العينة ينحدرون من الطبقات المتوسطة فما فوقها، و90% منهم نشأوا فى رعاية أسر متماسكة، و63% التحقوا بكليات جامعية، ويتقنون الحديث بعدة لغات، وأن غالبيتهم قد التحقوا بمنظمة القاعدة وهم فى السادسة والعشرين أى فى قمة نضجهم النفسى والعقلي، و أنهم أميل للاستقرار الأسري، حيث 73% منهم متزوجون و غالبية هؤلاء لهم أطفال، وأن عدد من يعانون اضطرابات نفسية أربعة أفراد فقط من بين 400 فرد وهو ما يقل كثيرا عن المعدل المعروف لانتشار مثل تلك الاضطرابات. يتفق ذلك مع ما قال به جون هورجان John Horgan وهو من أبرز علماء النفس السياسى المتخصصين فى دراسة ظواهر الإرهاب والعنف السياسي، وله كتابه الصادر 2008 بعنوان «الابتعاد عن الإرهاب: روايات عن التحلل من الارتباط بالحركات الراديكالية والمتطرفة» اهتم فيه برصد وتحليل ملامح أولئك الذين انغمسوا فى العمل الإرهابى ثم انسحبوا منه وأولوا ظهورهم له، معتمدا فى ذلك على مقابلات متعمقة أجراها مع عدد منهم، وخلص فيه إلى أن الانضمام إلى الشبكات الإرهابية وكذلك الخروج منها إنما يتأثر بالظروف المحيطة بالفرد بأكثر من تأثره بملامح شخصيته. خلاصة القول إن الفكر مهما بلغ انحرافه لا يعنى خللا نفسيا يمكن اكتشافه بأدوات القياس النفسي، كما أن ذلك الانحراف الفكرى لا يعنى بالضرورة تحول صاحبه إلى ارتكاب فعل تدميري، وإذا من يمارسون الإرهاب قلة يمكن أن تواجهها الأجهزة الأمنية؛ فإن الأكثر أهمية للمستقبل هو التعامل مع تلك الكثرة ممن يتعاطفون فكريا مع تلك الممارسات؛ وهى مهمة فكرية فى المقام الأول والأخير. إن فتح الأبواب أمام جميع التيارات الفكرية دون استثناء للحوار العلنى دون قيود هو السبيل الوحيد لتفنيد تلك الأفكار والحيلولة دون تحولها إلى ممارسات. ومهما يكن ضجيج الحوار فإنه أهون من لعلعة الرصاص. لمزيد من مقالات د. قدري حفني