منذ كان البشر وهم ينفرون ممن يتبنى فكرا خارجا عما ألفوه، ويزداد نفورهم إذا ما تحول ذلك الفكر الخارج إلى سلوك، مالت الجماعة للتبرؤ من ذلك الفكر وعزل صاحبه ومحاولة تقويم سلوكه قبل قبوله من جديد فى إطار الجماعة، وكانت الصورة البدائية لذلك النفور والرفض هى اتهام صاحبه بالجنون أو أن أرواحا شريرة قد تلبسته. وتطورت أشكال تلك الاتهامات عبر العصور فغاب استخدام كلمة «مجنون» ليحل محلها كلمة بدت أكثر رقة وإن كانت تعبر لدى العامة عن نفس المعنى وهى «مريض نفسي» وحلت محل الأرواح الشريرة أو الجن تعبيرات «علمية» مثل غسيل المخ أو إصابة المخ نتيجة مرض وراثى أو صدمة تعرض لها الدماغ فاختل تفكير صاحبنا. و دارت الأيام لنشهد خلال حقبة الحرب الباردة صناعة «صورة العدو» باعتبارها من الأسلحة النفسية الفعالة فى تلك الحرب وكان من آليات تلك الصناعة محاولة إلصاق صفة الجنون أو الخلل النفسى على قادة «الأعداء» وقد برع المتخصصون فى الطب النفسى الأمريكيون فى رسم الملامح المطلوبة بحيث أصبح الكثيرون يوقنون مثلا أن هتلر مصاب باضطراب عقلي. و من المفارقات أن تبرئة هتلر من المرض العقلى كانت على يد واحد من الذين عانوا من الاضطهاد النازى هو إيريك فروم الطبيب النفسى الشهير الذى صدر له منذ نحو نصف قرن كتاب ذاع صيته وتجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف, وكان عنوانه «الهروب من الحرية». لم يشر فروم من قريب أو من بعيد لخلل فى شخصية هتلر بل استوقفته ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألمانى حول ذلك الدكتاتور العنصرى الذى لم يخف يوما عنصريته أو ديكتاتوريته. بعد أن هاجر فروم من ألمانيا وطنه الأصلى إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية, لم يمض زمن طويل وإذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية فى أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. وتوصل فروم إلى أن المجتمع فى مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسى الاجتماعى الاقتصادى يشكل أبناءه وينشئهم على النفور من الحرية, بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق, ويسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف «البطل» الذى يتيح لهم التخلص من أغلالها, فيسارعون إلى الالتفاف حوله والسير وراءه والانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد. خلاصة ما انتهى إليه إيريك فروم أن عملية اختيار رئيس يتسبب فى كوارث لمجتمعه بل و للعالم أمر لا يرجع بالضرورة إلى خلل فى شخصيته أو حتى فى بدنه، ولكن الخلل يكون أساسا فى البنية الفكرية السائدة لدى الجماهير والتى دفعتها لاختياره وتفضيله. وما ينطبق على هتلر ينطبق على جميع القادة الذين تختارهم شعوبهم بشكل ديمقراطى حر. إن الدعوة لإخضاع المرشحين لانتخابات رئاسة الجمهورية لفحص بدنى نفسى مع افتراض دقة تلك الفحوص وقدرتها على التنبؤ و كلها أمور احتمالية تماما؛ قد يؤدى فى أحسن الأحوال إلى اختيار رئيس صحيح البدن لا يعانى من مرض نفسى واضح و لكن ذلك لا ينفى مطلقا احتمال أن يكون إرهابيا قاتلا. يشير جيرولد بوست Jerrold Post العالم النفسى المعروف فى دراسة له عن الجذور النفسية للإرهاب إلى أن ثمة فكرة منتشرة تقوم على أن الإرهابيين ليسوا سوى أفراد يعانون من اضطرابات نفسية خطيرة، ولكن الحقيقة العلمية التى يخلص إليها بوست هى أنه لا جدوى من البحث فى علم الأمراض النفسية الفردية لفهم سبب انخراط الناس فى الإرهاب، وأنه من المؤكد أن الإرهابيين أشخاص «طبيعيون» نفسيا، بل أن الجماعات والمنظمات الإرهابية تعزل من بين صفوفها الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية باعتبارهم يمثلون مخاطرة أمنية، وأن اختيار الإرهابيين لطريق ممارسة الإرهاب يضرب بجذوره فى تنشئتهم الاجتماعية المبكرة التى غرست فيهم البذور الفكرية الأساسية اللازمة لتلك الممارسة و وفرت لهم ممارسة «القتل باسم العقيدة» وأضفت القداسة على أعمالهم، فيقدمون على ما يقدمون عليه و هم موقنون أنهم على صواب. و يتفق ذلك مع ما قال به جون هورجان John Horgan و هو أيضا من أبرز المتخصصين فى المجال فى مقال اختار له عنوانا مركبا بالغ الدلالة: «تلمس المنابع بدلا من محاولة التعرف على ملامح الشخصية الإرهابية: الطريق إلى التجنيد» يشير فيه إلى تقرير صدر عن مجلس العموم البريطانى بعد مرور أقل من سنة على وقوع أربعة تفجيرات انتحارية استهدفت مترو الأنفاق فى لندن فى 7 يوليو، 2005، ورد فيه أن المعلومات المتوافرة عن مرتكبى الجرائم الإرهابية فى المملكة المتحدة لا تكشف عن وجود سمات مشتركة نمطية ثابتة تساعد فى تحديد من يمكن أن يكون معرّضا لأن يصبح إرهابيا. كذلك فقد أجرى مارك ساجمان Marc Sageman الطبيب النفسى وعضو معهد بحوث السياسة الخارجية الأمريكى دراسة رقمية إحصائية شملت صفحات التحقيق مع المتهمين بتفجير السفارة الأمريكية عام 1988 و التى تبلغ 9000 صفحة تتضمن كما هائلا من المعلومات عن حياتهم، بالإضافة إلى نحو 400 سيرة حياة ذاتية تفصيلية و أسفر تحليله عن أن هؤلاء جميعا لا يشكون مرضا نفسيا أو تفككا أسريا. خلاصة القول إن المحك الحقيقى فى اختيار الشعب لرئيسه إنما يتمثل فى بنائه الفكرى واختياراته الاقتصادية الاجتماعية، وهو أمر بعيد تماما عن مجالى الطب النفسى والبدني. لمزيد من مقالات د. قدري حفني