سوف تظل مقولة الشهرستانى فى كتابه «الملل والنحل» بشأن الإمامة وتاريخ الإمامة فى الإسلام صادقة كل الصدق، على الرغم من تتالى الأيام وتوالى الأزمان، وذلك حين قرر أن أعظم خلاف بين الأمة إنما هو الخلاف حول الإمامة، بل إنه – كما يتابع – ما سُلَّ سيف فى الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ بشأن الإمامة فى كل زمان! ولئن كان التاريخ الإسلامى يحتفظ لنا بالعديد من الوقائع والأحداث الأليمة فى شأن الفتنة الكبرى التى انقسم المسلمون بصددها واختلفوا، ولا يزالون مختلفين، فإن هذا التاريخ لا يزال يحتفظ لنا بكلمات ومواقف وادعة نديّة لعدد من الصحابة الأجلاء الذين اعتزلوا غمار تلك الفتنة ونفضوا أيديهم وقلوبهم من أحداثها المدلهِّمة، وهى كلمات ومواقف رفيعة تصلح أن تُقال فى كل زمن تثور فيه ثائرة فتنة الحكم أو شهوة السلطة وإغراءات السياسة، حيث تُزهَق فى سبيل ذلك الأرواح وتسيل الدماء،وتُستحَلَّ الحرمات، وتتفرق كلمة الأمة أيدى سبأ، وتتوه أقدامها وخطاها عن الجادة، وتضل عن سواء السبيل. ولقد يظن بعض الظانين أن جموع المسلمين بأسرهم فى هذا العهد الباكر من تاريخ الأمة قد انخرطوا فى أتون تلك الفتنة الكبرى، وكأنه لم يبق منهم من أحد إلا وقد استلَّ حسامه ووضع سيفه على كاهله ثم زج بنفسه فى نفر من المتقاتلين ليحارب نفرًا آخر، وأكبر الظن أن بعض الكتابات التاريخية القديمة والحديثة – والتى كُتِبَت فى كثير من الأحيان تحت تأثير العاطفة الجانحة أو التحيز المسرف – قد أسهمت فى إشاعة هذا التصور المغلوط، مع أن الواقع الذى يلمع تحت ركام الأحداث: أن فئات شتى من المسلمين قد نفضت أيديها عن الخوض فى تلك الفتنة – وعن الانخراط فى أحداثها، والانسياق فى مجرياتها من قريب أو من بعيد، مدفوعةً فى ذلك بدوافع شتى وبواعث مختلفة، قد يكون من بينها أن شئون السلطة وصراعات الحكم، بل الدنيا بأسرها قد بدت فى عيونهم أقل شأنًا وأهون خطرًا من أن تُزهَق فى سبيلها الأرواح أو تُسَتحَل الدماء، وقد يكون من بينها أيضًا أن «الحق» – فى أتون الفتن- مختلِط ومُنْبَهِم، لا يبدو فى أنظارهم واضحًا جليًا كفلق الصبح، أو كالشمس فى رابعة النهار. بيْد أن أكبر اليقين أن فئات شتى من المسلمين قد «اعتزلت» تلك الفتن و«اعتزلت» أسبابها ودواعيها، وكانوا بذلك أحق باسم «المعتزلة» وأولى، من قبل أن يسمى به أصحاب المذهب العقلى الشهير الذى نشأ فى فترات لاحقة، ففقد لزم أولئك «المعتزلة الأوائل» كما يقول الملطى فى «التنبيه والرد»: منازلَهم ومساجدَهم– واشتغلوا بالعلم والعبادة، بمنأى عن صراع السلطة وأحابيل السياسة، وميادين الحروب وحومات الوَغَى، مُطهَّرةً قلوبُهم وأيديهُم من الدماء والأشلاء. ثلاثة من أجلة الصحابة تبرز من بين أولئك السابقين من «المعتزلة»، يجمع بين ثلاثتهم – كما يتبدّى من كلماتهم القلائل التى بقيت لنا من ركام الأحداث: إحساس مرهف، وروحانية شفافة، وخشية من الله تعالى ورهبة، لا يريدون من الدنيا إلا أن يخرجوا منها دون أن تتلوث صفحاتهم وسيوفهم وأيديهم بدماء المسلمين وحرماتهم. أما أوّلهم والمقدّم فيهم فهو الصحابى الجليل سعد بن أبى وقاص: أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد رجال الشورى، وأول من رمى فى سبيل الله بسهم، وأحد الذين مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنهم راض، ثم هو بطل القادسية وهازم جند كسرى، وهو – فى الآن ذاته – أبرز من “اعتزل” الفتنة، وكفّ يديه عن أن يخوض فيها بلسان أو بسيف أو بسهم، مع أنه المجاهد الجسور الذى لا يهاب الموت ولا يخشى المنيَّة، لكنه حين رأىضرام الفتنة توشك أن تأتى على الأخضر واليابس: كفَّ يديه ولسانه – عن الاقتراب منها، فضلاً عن الانخراط فيها، والانحياز إلى أحد طرفيها، وحين كان يستحثّه من يستحث: على شىء من ذلك كان يقول قولته النافذة التى يجب أن يتأملها أولئك الغارقون اليوم فى ضلال الفتنة والذين يسترخصون الولوغَ فى دماء المسلمين طلبًا لاستشهاد زائف، ورغبة فى سلطة زائلة، واستجابة لِغواية الحكم: “آتونى بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك”. أمَّا ثَانى أولئك الصحابة الأجلاء من “معتزلة” الفتنة فهو عبد الله بن عمر ذلك الصحابى الجليل الذى كان شديد التأسّى بالنبى الكريم – صلى الله عليه وسلم –وله فى ذلك مواقف خالدات، بيْد أنه ما إِنْ نشبت الفتنة واشتعل لهيبها: حتى غادر المدينة موليًا وجهه شطر مكة لينأى بنفسه عن تلك الفتنة وعن الخوض فيها على أى نحو من الأنحاء، ثم إذا برجلين يأتيانه إبّان فتنة ابن الزبير – كما يروى البخارى - فيقولان له: “إن الناس قد ضُيِّعوا فما يمنعك أن تخرج للقتال؟” فيقول قولته النافذة التى لا تخرج عما قاله سعد بن أبى وقاص: «يمنعنى من ذلك أن الله حرّم دم أخي»، ثم يُردف الصحابى الجليل: «لقد قاتلنا لكى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، لكنكم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله»، فلقد كان القتال الذى رفض ابن عمر أن ينخرط فيه قتالاً بين «المسلمين»، إنه قتال مغموس فى عمق الفتنة من أدناه إلى أعلاه، إنه قتال غايته ومقصده متاع الحكم، وغلبة السطوة، وشهوة السلطان، فكيف لصحابيَّ كابن عمر – قال فيه النبى – صلى الله عليه وسلم – “نعم الرجل عبد الله” أن تُخَضَّب يداه بدماء المسلمين: شهوةً لحكم، أو رغبة فى سلطة، أو طلبًا لسلطان. أما ثالث أولئك الصحابة من “معتزلة” الفتنة فهو الصحابى الجليل أبو برزة الأسلمى ذلك الذى عاش فى جو يصطخب بالفتن، فمروان وبنوه فى الشام، وعبد الله بن الزبير فى مكة، وثائرون يُدْعَوْن “القُرَّاء” بالبصرة، ويضيق صدر ذلك الصحابيّ الجليل بما آلت إليه أحوال الأمة من هذا الاختلاف الدامي، فيُعرِب عن غضبه حين يَسأله مَن ْيسأله: “ألا ترى ما وقع فيه الناس؟” فيقول: »هذه الدنيا قد أفسدت بينكم، ذاك يقاتل بالشام، والله لا يقاتل إلا على الدنيا، وذاك يقاتل بمكة، لا يقاتل إلا على الدنيا، وهؤلاء يقاتلون بالبصرة لا يقاتلون إلا على الدنيا»، فيقول له سائِلُه « فإنى أراك ما تركت أحدًا»، فقال «لا أرى خيرًا للناس إلا قومًا خِماصَ البطون من أموال الناس خِفاف الظهور من دمائهم». فهل يمكن للأمة أن تنصت إلى هذا الدرس البليغ من هؤلاء الثُلَّة من الصحابة الأجلاء وأن تبرأ من هذه التصورات الشائهة التى تحولت «بالجهاد» إلى أن يكون – كما قال ابن عمر رضى الله عنه “فتنة”، غايتها أن يكون الدين لغير الله، بل يكون لغلبة السلطة والسطوة والحكم والسلطان. هل يمكن للأمة أيضًا باستيعاب هذا الدرس البليغ - أن تبرأ من هذه “الفتنة” التى تُزهَق فيها الأرواح وتسيل الدماء فى رؤية سوداوية للكون هى إلى الهدم أقرب، وإلى الفناء أدنى؟ هل يمكن للأمة – إنصاتًا لهذا الدرس البليغ أيضًا - أن يكون الجهاد جهادًا من أجل خيرية الكون وسلامه وأمنه وحضارته وتقدمه، كما أراد الله تعالى له أن يكون، وأن يكون “الاستشهاد” شهادة على الناس بخيرية الأمة وإشاعتها لقيم الحق والعدل والخير والأمن والسلام؟ عضو هيئة كبار العلماء لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى