هذه ليلتى التى أهدهد فيها أحزانى الراسبة فى أعماقى بفلسفة الادعاء بأن ما جرى ليس بالخسارة الفادحة، بل أقول بأن ما وراء الأكمة القاتمة والسنين الغادرة كان فيها ولا شك مغنماً، وأجاهد النفس لإقناعها بأن خساراتى قد أضافت الكثير لرصيد تجاربى.. وحتى إذا ما كانت كل خسارة مصحوبة بالألم، فهو الثمن المبذول الذى تقتضيه الخبرة؛ وأن أندم على ما فعلته خير من أن أتحسر على ما لم أفعل.. وكما قال الكاتب الإنجليزى جون أوسبورن «انظر وراءك فى غضب»، فإننى خلال ستين عاما نظرت وغضبت، ونظرت وغضبت، فلا الأمس كان بديعاً ولا عادلا ولا حانياً ولا آمناً ولا مُنصفاً ولا مُنجزاً.. و..أحسب أنى متوجسة أيضاً من أمل قد يحمله لى الغد بعدما تأخر طويلا فى القدوم حتى اعتدنا على العيش بلا أمل، ولأن الأشياء الحقيقية حين تحدث فى غير وقتها نعاتبها بقولنا: بعد إيه.. بعد إيه.. بعد إيه؟! فكيف بالله أن يحدث لى الآن ما لا طاقة لى به الآن؟! كيف أهدهد وليد البهجة بعدما وهن الذراع؟! كيف أمشى إليه وقدماى لا تقويان على حملى إليه؟! كيف أفتح له الباب وشرودى قد أضاع المفتاح؟! كيف يسمع القلب والعين قد أصابها الصمم؟! كيف أستقبل التهانى والقتلة فوق الأسوار؟! كيف بالله أشم النسيم والشجر قد طرح القنابل؟! كيف أبقيه صديقاً من انحاز للإخوان؟! كيف أعبر الطريق والرصيف جبال نار؟! كيف أسجد جمعة منبرها خطيب إرهاب؟! كيف أجنى سراباً لأضعه فى خزائن الوهم؟! كيف أشكو والشكوى لغير الله مذلّة؟! هذه ليلتى التى تنسكب فيها دفقات الشجن فى شرايين الليل.. ليلة أجتر فيها آثار العطب الذى جرى للعقل للقلب للقول للأرض للعِرض للنهر للجبل للحدود للأهل والصحاب للميادين الكبيرة لأسفلت الطريق لأسطح القنص لمآذن الرحمن لصليل الأجراس لفتاوى ينبذها الدين لبراءة الأطفال لشماريخ الأوغاد وقذائف الأضداد وحرائر الجحيم.. لهيئة البريد.. لنقابة الأطباء.. لحقوق الإنسان.. ليلة أعود فيها إلى أحلامى القديمة التى تركتها على أعتاب الوطن ثم ضللت طريقى إليها بعد ذلك.. ليلة لا دواء فيها إلا تعاطى الحلم.. ليلة يجافى النوم أصحابها فلا يغمض لهم جفن ولا يهدأ الفؤاد ولا يخلو البال.. ليلة لا أنام فيها ولا ينام الوطن.. ليلة ليست ككل الليالى المظلمة فأخيرًا فى الأفق شعاع ضوء قادم يخترق العتمة.. ليلة ينضو فيها اليأس ثوب الخضوع.. ليلة تقول فيها لا ليتردد صداها فى الوجود.. ليلة يُستجاب فيها الدعاء.. ليلة من فم المبتلى لكبد السماء.. ليلة مشحونة بالوعد والموعودين.. ليلة لا غبار عليها ولا خيمة ضباب ولا مبيد للخفافيش ولا حبوب لقاح آثمة متربصة.. ليلة صفاء يتنفس الصدر فيها الصعداء ويخرس النقيق والأزيز والصرير ونعير البهائم وعواء الذئاب وطحن الضروس الخاسرة.. ليلة نجوم قبة السماء والبدر فى اكتماله وسط السماء.. ليلة يُكشف فيها الحجاب عن سكة السلامة.. ليلة بَعْث سكنت مع فجرها الرياح وعاد فيها المجداف للملاح.. ليلة يأتيها صباح لا نستطيع مع أنواره أن نظل الناظرين بغضب إلى الوراء.. كفانا غضباً.. زهدنا الغضب.. نظرة للأمام فى مسيرة يسيرة يقودنا فيها الملاح يحدونا الأمل.. ننتزعه من براثن الألم!
بنت الشاطئ.. أميرة الصحراء عندما صادقنى الكتاب طفلة، وقرظنى مدرس اللغة العربية بعبارة «لا بأس» مذيلا بها موضوع الإنشاء الذى كتبت فيه عن قرص الشمس المدرج بدماء معركة الغروب بين جيوش النهار والليل ليسقط مجندلا خلف الأفق، مسح والدى على رأسى مباركا تلك «اللا بأس»، ودعا لى أن يرانى يوما أسير على درب بنت الشاطئ المعجب بها والمتابع لمؤلفاتها وكتاباتها فى صفحات الأهرام. وبقى الاسم أمام ناظرى هدفا أسعى للتمثل به لأحقق أمنية لمن أنجبنى أنثى وكان يتمنى وأتمنى لو أننى كنت الذكر الذى يحمل الاسم ويمد الفرع ويشد الأزر ويذود عن حمى الأهل والديار، ويعمل حسابه أزواج الشقيقات.. طيف والدى عاد من الأغوار طاغيا، وملمس يده الحانية بعث كأنه مروحة النسيم العليل على الجبين الملتهب لحظة أن قرأت خط الدكتورة بنت الشاطئ فى إهدائها لى كتابها «صور من حياتهن». تحيينى أستاذتى كابنتها وصديقتها وزميلتها متفضلة من مكانتها السامقة على واحدة ممن يسرن على خطاها ويتبعن هداها، وقلت فى سرى تعال يا والدى شوف الهنا اللى بنتك فيه بعدما كتبت لى بنت الشاطئ ذات نفسها وبخط يدها: عزيزتي!! المتفردة، أم المثقفين، سيدة نساء العرب فى عصرنا، أحد معالم القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين والقرن العشرين الميلادي، فريدة عصرها.. وحيدة دهرها.. ودرة تاج زمانها.. أستاذة الأجيال المتتالية.. أول سيدة تحاضر وهى سافرة فى أروقة الأزهر، وتترجم موسوعتها «سيدات بيت النبوة» إلى الفرنسية والإنجليزية والأردية والأندونيسية، وأسلمت اليابانية تيرو كوتوكو ماسو إثر ترجمتها لكتابها عن فاطمة الزهراء إلى اليابانية، وكان الملك عبدالعزيز آل سعود يلقبها ب«أميرة الصحراء».. التى أنجبها بيت على شاطئ النيل من فرع دمياط فى السادس من نوفمبر عام1913، وكان والدها الشيخ عبدالرحمن قد استقر به المقام فى سوق الحسبة بدمياط بعد زواجه بدمياطية، ليسبق مولد عائشة أختها البكرية ومن بعدها جاء شقيقات أربع وشقيقان.. ترتع الصغيرة فى ملاعب الطفولة تحت الصفصافة النامية فى اعوجاج الجسر، وتصنع بأدواتها الساذجة حمامة بيضاء بفرد جناح تسيرها مركبا ورقيا صغيرا يتهادى على سطح النيل الخالد، لتزامل مسيرتها من فوق البر فاردة جلبابها ليملؤه الريح فيغدو الشاطئ فى مخيلة الطفولة الخصبة منصة الانطلاق للطيران للأعالى لفوق السحاب.. وتحكى عائشة للماء ويهمس الموج بالحكاوى وتتأصل أواصر المحبة، وتخاف الأم عشق الصغيرة للسطح اللامع المراوغ، فتروى لها مأساة جدتها فى شرخ الشباب التى كانت تجلس طويلا تتأمل على الشاطئ، وذهبت لتتوضأ لصلاة الفجر فلا أقامت صلاتها ولا لدارها عادت، فقد سحبتها أذرع الموج الهادر، وتاهت صيحة استغاثتها مع الهدير لتهبط لمرقدها فى القاع، أو ليجرفها التيار للبعيد.. و.. مع الأيام غفرت عائشة لشاطئها ذنبا لا يغتفر، وتمادت بطبعها السمح فى تسامحها معه بأن استعارت من اسمه اسمها الجديد بنت الشاطئ ائتناسا بأصدائه، وساترا تختفى من ورائه عن عيون التزمت المترصدة لكل من تخرج عن صف الحريم، وتوقع باللقب المستعار كلماتها التى تصيغها حروفا من نور. بنت الشاطئ قلعة الفقه والفكر والتفسير والتحقيق التى قدمت للمكتبة الدينية 40 كتابا تحدت صعوبة اختراق عالم أبى العلاء المعري، فحصلت على رسالتيها للماجستير والدكتوراه عن حياته الإنسانية ومؤلفاته، وظلت عائشة لأكثر من نصف قرن من الزمان واهتمامها بأبى العلاء لا ينقطع، تجسده فى خيالها لتحادثه وتحاوره وترنو نحوه وتخطو إليه، وتقول يوما عنه لو كان أبوالعلاء حيا لنافس زوجى فى حبى له، ورغم عدم وفاق المعرى مع المرأة ظلت عائشة تقول عنه: أحببت فيه الصدق.. لقد رفض كل شيء لتسلم له كلمته النقية، وقد اختلفت فيه مع الخولى ومع طه حسين، فأنا أعتقد أنه ركل الدنيا بإرادته، وكانا يريان أنه كان محصورا فى أن يتزهد، وهناك جهل بأبى العلاء الذى كان عدوا للزيف والإتجار بالدين، وناقما على الساسة فناصبوه العداء وقولوه ما لم يقله، مثل أنه فى كتاب الفصول والغايات نقد القرآن الكريم، ولما قرأته وجدته وعظا من الدرجة الأولى ومواجد صوفية تسجد لله سبحانه وتعالى. وتحدت عائشة ابنة عبدالرحمن فى القيام بتحقيق مقدمة «ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح»، وهذا التحدى الكبير لا يشاركها فيه أحد، فالكتاب موسوعة فى علم الحديث، تضم سبعين نوعا، حتى بلغ عدد صفحاته بملحق تراجمه 952 صفحة، وبتحقيق هذا الكتاب اقتحمت سيدتنا ميدان دراسات علم الحديث الذى نبغت فيه واجتمعت لها أدواته التى جعلت منها نابغة المحققين فى عصرنا.. وليس هناك أشجع من تحديها لصاحب السطوتين القلم واللسان العملاق عباس محمود العقاد، الذى دخلت معه بنت الشاطئ فى جدل تاريخى خرج كل منهما من براثنه مثخن الجراح، لكنها كانت أمتع معركة أدبية بين «هو وهى» على مستوى تاريخ الحوار الأدبى فى مصر، الذى كتبت عنه بنت الشاطئ: «بدأت مبكراً فى الكتابة بجريدة الأهرام، وفى أحد الأيام التقيت الأستاذ العقاد فى مكتب رئيس التحرير، وأسمعنى كلمات تشجيعية تحفيزا لكاتبة ناشئة!.. سألنى: هل قرأت كتابي( سارة)؟، قلت: لم أجد نفسى فيه، والأنثى أقرب إلى فهم طبيعة الأنثى من الرجل. قام من المكتب وأسر فى نفسه هذا الرأى السلبي، وبعدها كتب (المرأة فى القرآن الكريم) وشاعت آراؤه التى تجعل من المرأة بطبيعتها( غانية)، وحتى المهن التى ألفتها وأقرب إلى طبيعتها كالطبخ وتصميم الأزياء وتصفيف الشعر وحياكة الملابس لم تتفوق فيها، وتفوق فيها واشتهر الرجال، وهى آراء تنم عن عداء مبالغ فيه لجنس النساء، فالعقاد كان يرى أن المرأة بطبيعتها قذرة، وفى مجالس اللهو أو حينما تتعرى فالمرأة عنده أقرب إلى الاستثارة الجنسية والخفة... وهنا رددت عليه آراءه فى مقال لى كتبته تحت عنوان (اللهم إنى صائمة) وقلت: إن المرأة التى يتحدث عنها العقاد والتى تتردد على مجالسه لا نعرفها ولا نعرف الذين يعرفونها.. إضافة إلى ذلك.. من قال له إننا نتعلق بأن نكون طباخات أو مصممات أزياء أو نعمل مصففات شعر أو حائكات ملابس بعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أستاذية فى الجامعات؟!.. وقلت له: أنت لا تعرف المرأة لا زوجة ولا بنتا ولا أختا فهلا عرفتها أما؟!.. أما قولك بأن المرأة قذرة فالذى أعلمه أن أمهات الأنبياء جميعا نساء فهل هن كما قال؟!.. فرد على كتابة: «رأيى هو من رأى الله».. فكانت القاصمة الكبري، وعلقت على كلامه قائلة: إن الرأى تردد وبين قبول وإيجاب، والكسبيات لا تسند إلى الله، فالله يحكم ولا يرى وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. فما قاله العقاد مناقض لأصول العقيدة، فالله لا تجوز عليه الكسبيات كما قلت، وانتهى بالنسبة لى الحوار مع العقاد عند هذه النقطة، لأن ما وقع فيه من أخطاء قاصمة تدل على عدم معرفة فيما خاض فيه.. وانتهى شهر رمضان ليثير العقاد القضية ثانية، قائلا: إننى آخر من تتكلم عن جنس النساء لأنى رضيت بتعدد الزوجات... فرددت عليه بمقال كان عنوانه (ما لم أقله فى الصيام)، وقلت إن هذا الجنس الذى أنا آخره كما يقول أعتز بالانتماء إليه.. وعلى العموم كانت معركة فيها مماحكة وتلاسن، وماذا أنتظر من رجل يفخر بأنه لم يدخل مدارس»؟!. وفى مسيرتها مع التحدى تتحدى بنت الشاطئ قلعة الصحافة لتدخلها من الباب الخلفى بعدما استشعرت الحاجة لبيبة محمد رئيس تحرير مجلة النهضة النسائية موهبتها فنشرت لها قصيدة بعنوان «الحنين إلى دمياط» وعدة مقالات، فقامت بدعوتها للقاهرة وقد حطت فى مخها ما سوف يأتيها من خير أدبى ومادى بقدوم الدمياطية بأمشاط لمساعدتها فى حمل أعباء المجلة، فكانت دعوة ظاهرها حضارة وباطنها شطارة، لم تشر بطلتنا سوى لجهدها المبذول فيها: «لبيت الدعوة على استحياء متهيبة لقاء هذه السيدة التى تنتمى للطبقة الراقية، وكان قد بلغنى من أنباء حياتها أنها تزوجت أول مرة من مرتضى باشا، ثم من أحد الأثرياء، وأن إحدى بناتها كانت زوجة لعبدالستار الباسل بك خلفا لفقيدة الأدب ملك حفنى ناصف باحثة البادية، وحصل اللقاء وكررت الزيارة أحمل مقالاتى معى وأقوم بالمراجعة اللغوية لجميع مواد المجلة، وقد تكلفنى السيدة الجليلة أحيانا بكتابة مقالها الافتتاحي، فأعد هذا التكليف شرفا لى وشهادة لقلمي، ثم بدا للسيدة الجليلة أن تستغني، لأسباب لم أسأل عنها، عن خدمات مدير التحرير ومدير الإدارة، وعهدت إلى القيام بعملهما معا، وذلك من عدد أكتوبر1933، وقد أدركت السيدة الجليلة بفطنتها حاجتى إلى مورد إضافى أستعين به على مواجهة نفقات تعليمى لكى أعفى أمى من المبلغ الذى تقتطعه لى من نفقات بيتنا المحدودة المتواضعة، فأصبح راتبي 4 جنيهات فى الشهر وهو فى تقديرى مكافأة سخية على كتابة بريد المجلة، وإعداد موادها للطبع، وتصدير كل عدد منها بمقال افتتاحى أتفنن فى إنشائه وأوقعه باسم السيدة الكبيرة الجليلة صاحبة المجلة، ثم أحمل المواد كل شهر إلى مطبعة حجازى فى الجمالية لأعود مرة أخرى فأصححها، وأخرى لأتسلم أعدادها نحو ألفى مطبوعة وأنقلها فى عربة خيل إلى مقر المجلة فى حى عابدين، وأكتب عناوين المشتركين على غلافها، ثم أحملها على دفعات إلى صندوق بريد المطبوعات على ناصية شارعى خيرت والمبتديان، وأتابع حركة البريد وتسديد الاشتراكات، وأحتفظ بالمرتجع حتى تعود السيدة الجليلة الحاجة من رحلتها السنوية إلى الحجاز، حيث اعتادت أن تقضى هناك نحو 6 أشهر».. وتغرى الموهبة ابنة دمياط للسباحة خارج مجرى السيدة الحاجة الجليلة فترسل بقصصها القصيرة لتنشر فى صحيفتى البلاغ وكوكب الشرق، أما مجلة الهلال فتعيد لها قصتها مع بطاقة اعتذار باسم إميل زيدان، وتبدأ مشوارها الصحفى مع الأهرام منذ عام1936 مع أنطون الجميل لتظل تكتب على مدى ستين عاما بابها الشهير «شاهدة عصر» لتستمر تكتبه بلا انقطاع حتى الخميس السابق لوفاتها عصر الثلاثاء أول ديسمبر عام1998. التحدى جزء من فطرتها، وشطر من تكوينها، حتى أنها تحدت الغضب والشعور بالظلم لتسمو فوق الجحود وعدم الاعتراف بالجميل.. وعلى كثرة ما قدمت فى حياتها العلمية، وعلى ضخامة ما أنارت سكة الباحثين، وعلى كثرة ما كرمها الملوك والرؤساء والأمراء والدول، فإن العارفين بفضلها وقدر منزلتها يهزهم الألم الدفين، فالموقعان اللذان كان ينبغى أن تشغلهما فى مجمع اللغة العربية ومجمع البحوث الإسلامية فى الأزهر الشريف ظلا شاغرين حتى موتها، ومن عجب العجاب ألا تدخل عائشة مجمع اللغة وهى إمام اللغة.. وقد استحقت عن جدارة أن تتبوأ مكانها فى مجمع الخالدين، ولكن أعضاءه آثروا أن يبقى مكانها أبدا شاغرا، ولم يتسع لها صدر مجمع الفقه الإسلامى الأزهرى رغم مكتبتها الإسلامية التى لا حصر لها ولا مقارنة بها.. المترفعة دوما التى لم يتسع لها صدر مجامع تشرف بأن تكون نوارتها عائشة، فاتسع لها صدر المغرب العربى كله لتمكث فى هجرتها المباركة لديه معززة مكرمة عشرين عاما، تفتحت فيها قلوب المغاربة لها، فأحبوها وعرفوا قدرها ونهلوا من فيض علومها، فأسلموا لها قياد التكريم والأستذة.. بنت الشاطئ تحدت كل شيء لكنها لم تستطع تحدى الحب. التقته فى الجامعة لتوقن عن إيمان عميق بأن حياتها كانت قبل معرفتها به طريقا إليه، وبعد رحيله انتظارا للقاء الثانى به فى الحياة الآخرة أستاذها وزوجها وسيد قلبها الشيخ أمين الخولي1895 1966 خريج مدرسة القضاء الشرعي، الذى ذهب فى بعثة إلى أوروبا وتأثر بحركات التجديد الديني، وشغل منصب مدير عام الثقافة، وأصدر مجلة الأديب عام1956، وأنشأ جمعية الأمناء وكان أمينها، ومن مؤلفاته المجددون فى الإسلام الحبيب الذى تقول عنه: «وتجلت فينا ولنا وبنا آية الله الكبرى الذى خلقنا من نفس واحدة فكنا الواحد الذى لا يتعدد، والفرد الذى لا يتجزأ، وكانت قصتنا أسطورة الزمان، لم تسمع الدنيا بمثلها قبلنا، وهيهات أن تتكرر إلى آخر الدهر».... ولا تكتفى عائشة بلغة السرد فى الحب بل تكتب الحب شعرا بلا قافية: «اثنين.. لكل منهما اسمه ونسبه ولقبه وصفته وصورته، وعمله وشخصيته.. وبهذه الثنائية العددية يتعاملان مع الناس والدنيا.. ولكنهما فى جوهر حقيقتهما واحد لا يتعدد.. لا كما تخيلت الأساطير عن النفس والقرين.. ولا كما تغنى الشعراء بالروح الواحدة فى جسدين.. ولا كما تمثل الصوفية رؤيا الفناء فى ذات الحبيب.. ولا كما تحدث العلماء عن الخلية الواحدة قبل أن تنقسم.. وإنما هو سر وراء ذلك كله.. سر تجلت فيه آية الله الذى خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها». ويسألونها عن زواج الحب؟ فترد: الزواج من الطبيعى أن يسبقه حب، ولقد كنت أتمثله وأنا فى الطريق إليه، وكنت ألقاه قبل أن ألقاه، وبالفعل فإنى قد تزوجته على ضرَّة، ولكنى حينها نضجت على هذه السن التى تمنعنى ضرَّة من لقائه.. كنت أشب وأرتفع لأصل إليه، والحب والكره داخلان حتى فى علوم أصول الفقه، ومما قاله الشاطبى فى الموافقات: (القلوب بيد الله)... لقد مضى أمين وبقيت أنا.. رحل الزوج الذى كان لا ينادينى إلا بالأستاذة، ولا يجرى ذكرى على لسانه إلا بالدكتورة.. وعلى عينى حملوه من دارنا إلى غير عودة، ومضوا به إلى قريته شوشاى فى ريف المنوفية فدفنوه فى ترابها الذى جاء منه وإليه كان المآب. وترحل بنت الشاطئ إلى الشاطئ الآخر.. شاطئ الخلود.. رحلت وكتابها بيمينها.. ذهبت من وهبت حياتها بسخاء للإسلام دينا وعقيدة وفكرا وتراثا، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.. استدعتها الملائكة بأمر ربها.. ذهبت وبقيت كلماتها.
الوطنى.. قضية شخصية! مالك يا أمى مهتمة قوى بأمر مبنى الحزب الوطنى وكأنه قضية شخصية؟ - فعلا.. قضية شخصية. ورثتيه من السيد زوجك؟! - فعلا.. فقد كان مهراً للزواج وللجهاز ولشهر العسل. فى حوزتك مستندات أو إعلان وراثة؟! - فعلا.. لدى أكثر من وثيقة ومستند وصور وأفلام للفنان منير كنعان.. والدك.. واقفاً فوق السقالات مشمراً عن أكمامه يرسم بفرشاته أكبر جداريتين فى مصر كل منهما 19 متراً عرض فى 9 ارتفاع للقاهرة «الأمس» و«اليوم» استغرق العمل فيهما أكثر من عامين بعدما وقع عليه الاختيار من بين عشرات الفنانين لتجميل القاعة العملاقة لمبنى البلدية الجديد، قبل أن يصبح الاتحاد الاشتراكى ثم محافظة القاهرة وبعدها الحزب الوطنى.. وبالمبلغ المكافأة وقدره 3 آلاف جنيه فى عام 1962 تزوجنا وجهزنا وسافرنا لشهر العسل وعشنا تبات ونبات.. وبعدها راح اللى راح؟! - فعلا.. والدك تعيش إنتَ.. وقتلوا السادات، ومبارك رحل راضخاً مع ثورة يناير، والوطنى بأكمله احترق ومعه أهم مستندات ثورة 52 التى كانت محفوظة داخل خزائن فى دور مستتر بداخله. الحريق كان بداية لمخطط محو ذاكرة مصر؟! - فعلا.. ذاكرتها التاريخية والحديثة، فبعدها أتى الإخوان على المجمع العلمى الذى شيّده بونابرت عام 1798، ومتحف ملوى بالمنيا التى سُرقت منه 1050 قطعة من أصل 1089، والمتحف الإسلامى، ومركز البحوث والوثائق بالدور الأخير وليس الأول ولا الثانى من مبنى كلية هندسة جامعة القاهرة، و.. و.. و..وكان آخر حرائق القلب ما خطفته الغربان بأمر من غراب البين السحلاوى الذى فتح خزائن القصر الرئاسى لتفرغ وثائقها فائقة الأهمية فى حقائب هاندباك تحملها حرائر المولوتوف لمقايضة أسرار الوطن بالدولار مع الخونة على قارعة الطريق.. والعقل مش دفتر أحوال لسوء أحوال مقصود بها مع سبق الإصرار والترصد ضرب الذاكرة التاريخية والأمن الوطنى المصرى فى مقتل.. فى الأخبار إن مكان الأرض المحترقة للوطنى مشروع ألمانى لحديقة غنّاء امتدادا للمتحف والتى كانت فى الأصل قطعة منه؟! - فعلا.. وربنا يوقف نمو كل بيروقراطى متكلس عقله حجر ومخدته جبس وشرايينه خشب ووجهة نظره مهترئة أكلها الدود عندما يبدى اعتراضه على الخضرة وماء النيل والواجهة الحسنة بحجة عدم موافقة «الجهاز القومى للتنسيق الحضارى»، أو للاحتفاظ بذكرى أحد رموز ثورة الجماهير فى 25يناير.. فإذا ما كان لدى الباشمهندس محلب رئيس الوزراء أحداً من السعاة قد فرغ من تقديم صينية القهوة بكوب ماء الحنفية القراح لحظر استخدام المياه المعدنية نوعاً من التوفير الحكومى فلا بأس من إرساله بعدها بطلب شعبى عاجل على ورقة دمغة للتنسيق الحضارى لإخراج الوطنى من قوائم المبانى ذات القيمة المتميزة طبقا للقانون رقم 144 لسنة 2006 برقم توثيق 3180001204 حيث لم يعد للهيكل الكئيب الكئود المحبِط المحترق قيمة ولا تميزاً ولا تفرداً ولا لازمة.. أما من جهة الاحتفاظ بشاهد على الثورة فهناك عشرات المحاريق للقيام بهذا الدور وأولها مبنى مجمع المحاكم بشارع الجلاء بالقرب من بوابة الأهرام، وإن كان هو الأولى والأجدر بالهد وإعادة البناء داراً حديثة للقضاء المصرى فى ثوبه الجديد بشرط ألاّ يكون فى قاعاته من يرد المحكمة أو يطالب بشهادة شهود نفى من أول رئيس مخلوع أو وزير مسجون من قوافل المحامين المستفيدين من نظرية طوبة على طوبة تفضل العاركة منصوبة! لمزيد من مقالات سناء البيسى