تعد إيران قوة إقليمية رئيسية فى منطقة الشرق الأوسط، لاعتبارات تاريخية وحضارية واستراتيجية عديدة، ورغم أنها دولة قابعة فى أعماق التاريخ، ومع أنها ما زالت رقما مهما فى كثير من التفاعلات التى تجرى على الساحتين الدولية والإقليمية، فإن فك ألغازها وتعقيداتها لم يحظ بقدر يسير من الاهتمام العلمى والأكاديمي، دون أن يخضم ذلك بالطبع من الجهود المحمودة التى بذلت فى هذا السياق. من هنا تكمن أهمية كتاب «تاريخ إيران الحديثة، الذى رغم أنه يتناول، كما هو واضح من العنوان، التاريخ الحديث للدولة، أو بالتحديد يدرس الحالة الإيرانية بمختلف جوانبها خلال القرن العشرين، الذى شهدت فيه إيران ثورتين كبريين، إلا أنه يتميز بأنه يتعمق فى تشريح تلك الحالة، طارحا عددا من الأفكار الرئيسية التى يمكن أن تساعد الباحثين والمهتمين على فهم سياسات إيران وأنماط تفاعلاتها مع التطورات المحيطة بها ليس فى الماضى فقط بل فى وقتنا الحالى أيضا، إذ أن ما آلت إليه أحوال إيران الآن، يمثل تراكما لما حدث فى فترات وعهود سابقة. أهم هذه الأفكار يرتبط بالحراك الاجتماعى المستمر الذى عايشته إيران وكان له تأثير كبير على التغيرات السياسية، إذ أن الضغوط الاجتماعية المتوالية، التى أنتجتها سياسات الحكومات والأنظمة المتعاقبة، كانت مدخلا أساسيا للثورتين اللتين شهدتهما إيران فى أقل من ثمانين عاما، حيث كان للطبقات الدنيا التى تضررت جراء تلك السياسات دور أساسى فيها. واللافت فى هذا السياق أن هذه الضغوط تلاقحت مع وجود نخب وطبقات تتمتع باستقلالية عن الدولة، وهو ما كان سببا مهما آخر فى تحولاتها المتتالية. فكثيرا ما دخلت الدولة فى صراع مع طبقة رجال الدين، التى وفر لها استقلالها المالى نفوذا وتأثيرا قويا بعيدا عن سيطرة الدولة، بل إن بعض الفتاوى التى كان تصدر عن كبار آيات الله فى الحوزة كانت فى بعض الأحيان سببا رئيسيا فى إرغام الدولة على تغيير سياساتها. وفى كثير من الأحيان، كانت الدولة تجد نفسها أمام تحالف وثيق بين طبقة التجار (البازار) ورجال الدين، حيث يقدم التجار على إغلاق البازار كنوع من الاعتراض عندما تحتدم المواجهة بين الدولة والعلماء. وهو تحالف ما زال قائما حتى الآن، ويمثل أحد الملامح والأركان الأساسية لنظام الجمهورية الإسلامية الذى تأسس عقب الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوى فى فبراير عام 1979. كما أن الكتاب يشير إلى نقطة مهمة أخرى تتمثل فى أن إحدى أهم نقاط الضعف التى عانت منها الأنظمة السياسية التى تعاقبت على حكم إيران هى أنها افتقرت للآليات التى تستطيع من خلالها إحكام سيطرتها على الدولة. فقوة الشاه كانت محدودة ومنحصرة فى المناطق القريبة منه. بعبارة أخري، فإن الافتقار للبيروقراطية وللدولة الحقيقية خارج العاصمة كان سببا فى السقوط المتتالى للأنظمة والتحولات المستمرة فى الدولة. وتكمن المفارقة فى أن ذلك السبب نفسه يفسر إلى حد كبير أسباب فشل بعض الثورات والحركات الوطنية التى تعاقبت على إيران فى القرن العشرين فى تحقيق أهدافها بشكل كامل، لأنها عندما تصدت لإدارة شئون الدولة لم تجد من الآليات ما يمكنها من تنفيذ رؤاها وطروحاتها. وربما يفسر ذلك حرص رجال الدين فى إيران وعلى رأسهم الخميني، عند بداية تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، على طمأنة النخبة البيروقراطية النافذة داخل مؤسسات الدولة ,وكان قسما منها مواليا لنظام الشاه، بعدم إقصائهم خشية أن يؤدى ذلك إلى انهيار مؤسسات الدولة بشكل كان من الممكن أن يؤدى إلى فشل الثورة الجديدة فى تحقيق أهدافها ومن ثم انحسارها وخفوتها تدريجيا على غرار بعض الثورات والحركات الوطنية السابقة. بل إن الخمينى نفسه كان حريصا على إشراك القوى الأخري، لاسيما تلك التى امتلكت خبرة بيروقراطية فى إدارة شئون الدولة، أولا لتجنيب رجال الدين التصدى منذ اللحظة الأولى لتلك المهمة الثقيلة فى الوقت الذى افتقدوا فيه الخبرة الإدارية، وثانيا بسبب انقسام الأخيرين أنفسهم حول الدور السياسى المنوط بهم، ومن هنا كان إشراكه لبعض عناصر تلك القوى فى مجلس قيادة الثورة ثم تكليفهم بإدارة شئون الدولة على غرار مهدى بازركان وأبو الحسن بنى صدر. وقد دفع ذلك بعض الاتجاهات إلى الحديث عن أن الثورة التى أطاحت بحكم الشاه فى عام 1979 لم تكن ثورة إسلامية بالمعنى الكامل للكلمة بل ثورة وطنية تجاوزت الاستقطاب الأيديولوجى الذى كان سائدا على الساحة وضمت قوى وأطيافا سياسية عديدة اجتمعت على هدف واحد هو الإطاحة بالنظام الملكي، رغم أن تلك المقاربة انتهت سريعا بعد تصاعد حدة الصراع السياسى بين رجال الدين والقوى السياسية الأخرى حول قضايا عديدة تمس هيكل وبنية النظام السياسى الجديد، وانتهى الأمر بسيطرة رجال الدين على السلطة وتكريس اولاية الفقيهب كمحور أساسى لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إن سيطرة رجال الدين على النظام الجديد وإقصاء القوى الأخري، كان سببا رئيسيا فى الأزمات المتتالية التى تعرضت لها إيران، لاسيما خلال العقد الأول، الذى واجهت خلاله الدولة تحديات ليست هينة على غرار الحرب مع العراق (1980-1988) والعقوبات الدولية وحالة عدم الاستقرار السياسى والأزمات الاقتصادية. وفى الأخير، تبقى قضية مهمة، مفادها أن تكريس الطابع الإسلامى للنظام السياسى فى إيران وسيطرة المؤسسات الراديكالية الثورية على توجهاته، لم يضعف من شغفها بإرثها الإمبراطوري، الذى يطل برأسه بين الحين والآخر فى تفاعلاتها مع الخارج. بل إن إحدى مدخلات الأزمة السياسية التى شهدتها إيران خلال عهد الرئيس السابق محمود أحمدى نجاد، تمثلت فى بروز تيار سياسى أطلق عليه رجال الدين والموالون للمرشد الأعلى للجمهورية وقادة الحرس الثورى لقب «تيار الانحراف» لتبنيه توجهات قومية تعظم من «فارسية» الدولة باعتبارها أساسا لا فكاك منه مهما تغيرت السياسات وتعاقبت الأنظمة.
الكتاب تاريخ ايران الحديثة المؤلف : أروند إبراهيميان- ترجمة مجدى صبحي الناشر :المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب- الكويت- سلسلة عالم المعرفة- العدد 409- فبراير 2014 الصفحات 314 صفحة