هناك العديد من وسائل اللاعنف التى تجبر الديكتاتوريات على التراجع تجربة الانتفاضة الفلسطينية والثورة الإيرانية يمثلان نموذجا لحرب اللاعنف لابد من الاستفادة من التجارب السابقة مع مراعاة الاختلاف بين الشعوب وأساليب قمع السلطة فى هذه الحلقة نتناول حرب اللاعنف التى تعرض لها الكتاب، مع أمثلة للتدليل على ذلك، سواء بما جرى فى الانتفاضة الفلسطينية أو الثورة الإيرانية، ويمكن القول إن كتاب «حرب الصدور العارية» يأتى -فى سلسلة حرب اللاعنف- لإجابة عن سؤال جوهرى وهو: أى كفاح يمكن أن يتعامل مع القمع، وهل يجدى اللاعنف مع نظم مستبدة تسخر كل طاقاتها للتصدى لصوت الشعب الهادر؟ ومن وسائل حرب اللاعنف التى يتطرق إليها الكتاب: الضغط النفسى وخلق حوار داخلى مع العاملين فى المؤسسات القمعية.. وأيضا تتبع السيارات التى تنقل العاملين فى الصباح الباكر، ورفع صور تشير إلى جرائم المؤسسة التى يعملون بها. وتوجيه رسائل مباشرة إليهم من خلال لوحات وأنشطة متنوعة. وهكذا يمكن تكرار هذه الأنشطة فى نقاط محددة على خطوط سيرهم، وأمام منشآتهم المتنوعة. مع مراعاة الجانب الحضارى غير المستفز. ويضيف الكتاب: عندما يقرر نشطاء المقاومة اللاعنيفة عبر العالم التصدى للديكتاتوريات بصدورهم العارية، متوشحين بثوب الأمل، وبريق الفكرة فعليهم أن يخططوا للنجاح، لأنهم لا يسعون لتسجيل الحضور فى مسرح الأحداث عبر أنشطة متنوعة؛ بل يسعون من خلال أنشطة مدروسة إلى تحقيق الانتصار.. الانتصار على الذات بقهر الخوف، والانتصار على اليأس باقتلاعه من نفوس الجماهير، والانتصار على الاستسلام بطرد وهم المستحيل عبر تحرير عقول الجماهير المتطلعة إلى التغيير، والانتصار على الديكتاتوريات بتخليص البشرية من شرورهم، بل والانتصار للأساليب الحضارية الفعالة على وسواس العنف، الذى قد يظنه الناس خطأ الدواء الوحيد لأزماتهم. ومن أوجه حرب اللاعنف أيضا عدم التعاون فى مجال التجنيد الإجبارى: ويتم فيه رفض أوامر تسجيل الأشخاص أو الامتثال لأداء الواجب العسكرى، وقد تكون هذه الطريقة نوعا من أنواع العصيان المدنى. وقد عرفت نيوزيلندا موجة واسعة من رفض التجنيد والتدريب العسكرى فى عام 1913، فحُكم على كثيرين بالسجن فى معسكرات الاعتقال، وفى عام 1930 رفض ما يقرب من خمسين ألف شاب التدريب العسكرى. ويؤكد الكتاب هنا على مبدأ هام، قائلا: قد اخترنا مصطلح «أسلحة حرب اللاعنف» للإشارة إلى أن اللاعنف لايعنى الاستسلام أو الوقوف بشكل أعزل فى مواجهة الاستبداد، وإنما يستعمل وسائله الخاصة فى الحرب التى يشنها ضد الديكتاتوريات على وجه الخصوص أو ضد خصومه السياسيين بصفة عامة. وتعتمد تلك الأسلحة على قوة الشعوب، تلك القوة التى تستند إلى أسلحة فعالة ومؤثرة تقابل أسلحة الخصم، غير أن ما يميزها أن قوتها لا تكمن فى إزهاق الأرواح أو تفجير المنشآت؛ إنما فى بناء أفضل ما فى الإنسان: عقله وروحه، وإرادته. ويتم التطرق إلى الانتفاضة الفلسطينية كنموذج لمقاومة اللاعنف، حيث يقول الكتاب: صُنفت انتفاضة أطفال الحجارة فى فلسطين فى عداد الحركات اللاعنيفة من عدة أوجه: - اعتبار طبيعة الخصم: محتل يجيز القانون الدولى قتاله. (وهنا فالتعاطف العام مع الفعل موجود). - اعتبار السلاح المضاد: رصاص ودبابات ومدرعات... إلخ (فلا يوجد وجه مقارنة بين الحجارة من جهة والرصاص من جهة أخرى). - اعتبار الفاعل: حيث نُسبت الانتفاضة إلى صبية ينحتون فى الأرض لطرد المحتل. هذا السلوك الذى أكسبهم دعما كبيرا. - المساحة التى احتلها عنف الحجارة: فقد شملت الانتفاضة أعمالا كثيرة مثل الإضرابات، والدعوة إلى قيام مؤسسات بديلة، ومقاطعة بعض السلع، وتقديم الاستقالات... إلخ. وبالتالى ما تعتبره هنا «حرب اللاعنف» ضمن حدودها (من تدخل خشن ليس من أدواته الأسلحة القاتلة كالأسلحة البيضاء أو العسكرية) قد تلفظه تماما فى حالات أخرى لا تتوفر فيها الضوابط السابقة؛ فربما تقبل عنف الحجارة فى حالة، بينما ترفض مجرد العنف اللفظى فى حالة أخرى حين يحمل المجتمع السلاح يكون أسهل شىء هو القتل، ليس فقط قتل الطغاة، بل قتال الجبهات المتعددة لبعضها البعض. هذه ورقة الديكتاتوريات التى لا تعبأ بمصير المجتمع، تُدخل المجتمع فى فوضى العنف. فليعبأ المقاومون بمجتمعاتهم ويضحوا من أجل الحفاظ على مسارهم اللاعنيف. وليعلموا أن ذلك سيؤلمهم كما يؤلم أى قتال. يمكن أن تمثل التماثيل مصدر إزعاج للطغاة، تلك التماثيل التى تعبر عن رموز تاريخية أو معاصرة، تركت بصمتها فى مجالات محددة مثل الفن والسياسة والاقتصاد. الثورة الإيرانية ومقاومتها النظام الدموى عام 1979نموذجا كما يمكن الإشارة إلى الثورة الإيرانية كنموذج لمقاومة اللاعنف؛ إذ كانت إيران تعيش فى حالة من الاضطراب السياسى والاجتماعى والاقتصادى، والاحتقان الشعبى الشديد يأخذ مكانه على الساحة فى شكل هبات وانتفاضات جماهيرية بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التى يعانى منها غالبية الشعب، رغم الثروة البترولية الضخمة التى تمتلكها البلاد، بالإضافة إلى القبضة الحديدية التى لا تسمح بالمعارضة فى ظل حكم الشاه محمد رضا بلهوى، الذى اتبع أساليب عنيفة لتصفية معارضيه بالاغتيال والنفى والسجن، وما يتردد من أخبار عن فساد الشاه وأسرته وإسرافهم وبذخهم الشديد، كل هذه الأمور وغيرها جعلت المعارضة ضد النظام السياسى للشاه تزداد. وبالرغم من الاختناق العام فإن الساحة الإيرانية لم تخل قط من الحركة، وكانت فى معظمها ردود أفعال تقمع بشدة.. كانت التضحيات أكبر من المكاسب، ولم يكن لديهم سوى الإضرابات والمظاهرات المحدودة التى تبدو كفقاعات أمام عتو النظام وجبروته. ونشأت الكثير من الحركات السرية التى ربما قامت كل منها بعمل واحد ثم تم تصفيتها. وبينما كانت هذه التضحيات الفردية لا تنتهى، كانت الحركات الفكرية تنظم نفسها، وبدأ الحراك الفكرى والسياسى يسيران جنبا إلى جنب. وكان أكثرالمعارضين هم العلماء، وعلى رأسهم آية الله الخمينى الذى كان يدرس فى مدرسة الفياضية فى قم، ويحتشد الآلاف لخطبه ومواعظه الدينية، وأسس الخمينى «الاتحاد الإسلامى»، وكان يرفض كل ما يصدره الشاه، ويرفض كل ما يصدره المجلس النيابى من قوانين أو يصادق عليه؛ لأنه يصدر عن هيئة غير مخولة، ولا تنطبق عليها الصفة الشرعية. كان الخمينى يكرر دائما وصية الإمام على بن أبى طالب -رضى الله عنه- لأبنائه: «فلتكونوا دائما حماة الضعفاء وأعداء الظالمين»، لذلك حينما قام الشاه بإعطاء الحصانة السياسية للخبراء والمستشارين الأمريكيين، وأعلن عن «الثورة البيضاء» التى تهدف فى حقيقتها إلى إخضاع علماء الدين للدولة عن طريق سحب جزء كبير من الأراضى التى يمتلكونها من الوقف، وتهديد كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم، وإعطاء حق التصويت للمرأة، استغل الخمينى كل هذا فى الدعاية ضد الشاه وسياساته، واتهمه بأنه ضد الشريعة والدستور، وأنه باع إيران للأمريكيين، وكانت المناسبة الأولى التى ظهر فيها اسم الخمينى فى أثناء احتفالات الشيعة بذكرى استشهاد الإمام الحسين فى يوم عاشوراء، فدعا إلى التظاهر والإضراب، واستجابت الجماهير لنداءاته، وانقلبت مواكب عاشوراء إلى تظاهرات عام (1383ه-1963م) اصطدمت بقوات الأمن، وسقط ألفا قتيل من المتظاهرين، وأظهر ذلك تأثير الخمينى البالغ فى الجماهير. وقد نجح الشاه فى قمع المظاهرات دون اللجوء إلى قوات الجيش، وتوجه بنداء إلى العلماء ليلتزموا الهدوء، ووعد بعدم المساس بأراضى الأوقاف، وألقى القبض على الخمينى، ثم أُمر بنفيه إلى خارج البلاد. لقد لقب الخمينى باسم «محطم الأصنام» لأنه لم يخاطب الشاه قط بلفظ «صاحب الجلالة» كما اعتاد زعماء المعارضة عند مخاطبته. لقد نجح الخمينى فى الاستفادة من المواسم والحفلات والتقاليد الشيعية فى تحويل عناصر الشعب المخدرة إلى قوة ثورية. وبشروق شمس 5 يونيه عام 1963 انتشر خبر القبض على الإمام. واشتعلت المظاهرات تهتف بسقوط الشاه، فأصدر الشاه أوامره بإطلاق النار على المتظاهرين، وداست الدبابات الجثث. وزحف المتظاهرون إلى مبنى الإذاعة واستولوا عليه، وخلال دقائق ولأول مرة يرتفع الشعار ليسمعه العالم كله بعد خمس عشرة سنة من القمع «الموت للشاه».. كانت الجماهير العزل تهاجم الدبابات بصدور عارية، وكان رصاص الشاه يحصدهم وهم يتقدمون. وبذلك يكون الخمينى قد سطر ملحمة الثورة من سبتمبر عام 1963 حتى نوفمبر عام 1964 من خلال التحدى العلنى للشاه. فتم نفيه بعد ذلك. وقد ساهم النظام بغبائه وجبروته فى تحويل الخمينى إلى زعيم عالمى. ومن (1964- 1971) هدأت حدة المعارضة وبدأ الشباب الإيرانى يعد نفسه فكريا وعسكريا.. فتدربوا على السلاح فى الأردن ولبنان ومصر. وإزاء هذا العمل السرى كان النظام يلجأ إلى التصفية الجسدية. كان الجنوح إلى الحل العسكرى يزداد يوما بعد يوم. وفى أواخر الستينيات ظهرت نحو (6-12) منظمة عسكرية، غير أن منظمتين فقط استطاعاتا تنفيذ عمليات عسكرية. وبالرغم من التنظيم الجيد للمجاهدين فإن عملياتهم كانت جد قليلة، ولم تكن ناجحة تماما. الحياة فى المنفى تم نفى الخمينى بعد الأحداث الدموية (1964) بشهور إلى تركيا، وعاش فيها ما يقرب من أحد عشر شهرا، لكنه اختار بعد ذلك أن يعيش فى النجف الأشرف بالعراق، وبدأت الأوضاع تعود إلى الهدوء الظاهرى فى إيران، وأصبح النجف مركز اهتمام كبير وبؤرة تجمع كل المعارضين لنظام الشاه خارج إيران، تحت زعامة الخمينى الذى أخذ فى إلقاء الخطب والمحاضرات المؤثرة عن الأوضاع فى إيران، فتناقلها أتباعه ومريدوه، ووجدت صدى واسعا بين الإيرانيين. وكان علماء الدين والمعارضة قد بدءوا فى البحث عن وسيلة للإطاحة بالشاه، واختاروا لتحقيق ذلك حرب العصابات منذ مطلع (1390ه - 1970م)، وظهرت جمعيتان ثوريتان هما: «فدائيو خلق» الماركسية، و«مجاهدو خلق» التى يقودها بعض الرجال الذين تعلموا على يد المفكر البارز «على شريعتى»، الذى يعتبر المنظر الأول للثورة الإيرانية. وقد حاول النظام العراقى سنة (1394ه - 1974م) الحصول من الخمينى على تأييد دينى وسياسى فى أثناء خلافاته مع إيران، إلا أنه رفض ذلك الأمر، وعندما وقعت بغداد وطهران اتفاقية الجزائر (1395ه - 1975م) طلب العراق من الخمينى السكوت عن معارضته للشاه، وإلا فعليه الرحيل إلى أى مكان آخر، فآثر الخمينى السكوت المؤقت حتى تتغير الأوضاع، ثم تكرر طلب السافاك والشاه بعد عامين لدى العراق بأن يوقف الخمينى نشاطاته، فخيرته بغداد بين البقاء صامتا أو الرحيل، فآثر الثانية، غير أن الشاه أدرك خطورة مغادرة الخمينى للعراق وطلب من العراقيين منعه من الخروج. وقبيل هذا الأمر وقعت له مأساة شديدة عميقة تمثلت فى اغتيال ابنه الأكبر مصطفى فى كمين دبره له رجال السافاك، حيث كان يضطلع بالدور الأكبر فى حمل رسائله إلى مؤيديه فى إيران. وتحول الحزن على مصطفى إلى مناسبة ليظهر فيها الناس ولاءهم للخمينى وتأييدهم إياه وعداءهم للشاه، عندها وجه الخمينى رسالة إلى مؤيديه تحت عنوان: «لقد سكبنا ما فيه الكفاية من الدموع»، وطالبهم بتعليمات أربعة؛ أن يقاطعوا المؤسسات الحكومية، وأن يسحبوا كل أشكال التعاون معها، وألا يسهموا فى أى نشاط يفيدها، وأن يقيموا مؤسسات إسلامية فى جميع المجالات. ولأن فتوى العلماء مقدسةكدماء الشهداء، فإن الإيرانيين أخذوا فتواه على محمل الجد والعمل، واتسع نطاق التظاهر داخل إيران، مع تدفق آلاف من أشرطة الكاسيت تحمل صوت الخمينى وتحريضه على التمرد والعصيان. نوفل لوشانو.. والعالمية أُجبر الخمينى على مغادرة العراق، فقرر الذهاب إلى الكويت، فصدر أمر بإغلاق الحدود فى وجهه، فعاد إلى النجف ومنها إلى دمشق، ثم توجه إلى باريس فى (شوال 1397ه - أكتوبر 1977م) واستقر فى بيت صغير فى ضاحية نوفل لوشانو على بعد (20) ميلا غربى باريس، وأصبحت تلك الضاحية الهادئة مقرا لقيادته لحين عودته إلى إيران. وفى باريس انتقل من زعيم محلى إلى العالمية، وكان وجوده هناك نقطة تحول فى تاريخه وفى تاريخ بلاده، فسلطت عليه وسائل الإعلام المختلفة أضواءها، وكان يقضى معظم وقته أمام عدسات التلفاز، أو محاورى الصحافة، فخلال ثلاثة أشهر قضاها فى باريس أدلى بخمسمائة حديث لوسائل الإعلام، وفى أحد حواراته مع صحيفة «لوموند» الفرنسية تحدث باعتباره زعيما مصلحا ورئيس دولة متوقعا، فأعرب عن وجهة نظره فى القضايا المطروحة على الساحة الإيرانية بمنظور عصرى؛ وهو حديث يخرج عن نطاق الوعظ والإرشاد والنقد المبهم للفساد. فى (ربيع الأول 1398ه - فبراير 1978م) خرجت المظاهرات من مساجد «تبريز»، ولم تستطع قوات الأمن السيطرة عليها، فخرجت فصائل من الجيش، وسيطرت على الموقف، وفُرض حصار برى وبحرى على المدينة، وزادت حدة المظاهرات فى رمضان، وأخذت تطالب بإغلاق المطاعم، والبنوك الربوية. وفى يوم الجمعة (6 شوال 1398ه - 8 سبتمبر 1978م) وقعت مصادمات بين الشرطة والمدنيين سقط خلالها أربعة آلاف قتيل، وسمى ذلك اليوم «الجمعة الدامى»، وأُعلنت الأحكام العرفية، وفُرض حظر التجول، إلا أن المتظاهرين تحدوا ذلك فى مدينة قم، وخرجت المظاهرات وسقط أكثر من ألفى قتيل، وأعلن علماء الشيعة الحداد وامتنعوا عن الخطب، وفى هذا الجو المشحون بالمآسى أقام الشاه حفلات باذخة؛ فكانت سببا فى زيادة حدة الغضب الشعبى. معا ضد الشاه تميز صيف عام 1977 بارتفاع شديد فى درجة الحرارة وكأن الطبيعة بدورها تمهد للثورة. وكان النظام يستميت فى إبداء ثباته، لكنه كان يتخبط. وارتفعت الأسعار وفرضت ضرائب وعم الفساد. ومنذ بداية 1977 كانت نذر العاصفة تلوح فى الأفق، وبعد فترة من الصمت بدأت مصادمات فى الشوارع بين السافاك والمجاهدين، وكانت الحادثة من الوحشية بمكان وأدانتها حقوق الإنسان فى هولندا. ثم انضم المثقفون بكل ثقلهم لينقدوا بدورهم النظام، وتمخضت حركة المثقفين عن تكوين جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان فى إيران، وانتشرت الجمعيات الإسلامية وبدأت الإضرابات والمظاهرات، وأضربت كلية العلم والصناعة لمدة شهرين، وكانت كل هذه الأعمال تواجه بالقمع والعنف. بدأت المظاهرات فى الخارج وهى التى فضحت النظام، وأضربت الجمعيات الإسلامية فى فرنسا عن الطعام. تجلى وجه آخر للثورة الإيرانية؛ فقد قام التجار بفتح حساب اكتتابى فى أحد البنوك لصرف مرتبات الأساتذة عندما رفضت الحكومة صرف مرتبات الأساتذة المعارضين. وحينها تراجعت الحكومة عن قرارها. نبهت أحداث تبريز المسئولين الإيرانيين الموالين للشاه إلى ضرورة البحث عن حلول للمشكلة المتفاقمة فى إيران، ومن ثم بدأت وسائل الإعلام تجرى نقدا ذاتيا لمؤسسات الدولة، ولنشاط حزب «رستاخيز» الحاكم، بغرض امتصاص الغضب الشعبى الذى شمل طهران وقم وتبريز، غير أن الشاه تمسك بموقفه الرافض للاعتراف بالمعارضة، سواء المعتدلة أو المتشددة، بل وصفهم ب«القتلة الخارجين على النظام»، وكان هذا الرفض القاطع منه بمثابة الضوء الأخضر للمعارضة لتتحد ضده، متناسية خلافاتها الجوهرية. كذلك رفض الشاه نصائح الجنرال «ناصر مقدم» مدير السافاك بأن يسمح بتكوين أحزاب، وبالعمل على إجراء انتخابات حرة، وتطهير أجهزة الدولة من الفساد. دفع هذا التعنت السياسى للشاه إلى مطالبة جميع القوى الوطنية بإسقاطه، وشاركها فى ذلك كبار التجار أصحاب البازارات (الأسواق التجارية) التى تضم (250) ألف صاحب محل، وكان هؤلاء التجار يتمتعون بعلاقات متينة مع علماء الدين. والمعروف أن الأسواق كانت تغلق أبوابها فى إيران عندما يثور التجار، وأن التجار كانوا يعتصمون فى المساجد إذا أرادوا إعلان احتجاجهم فى مواجهة السلطة، كما أن الشاه قام بسجن ثمانية آلاف تاجر من أصحاب المحال التجارية؛ لذلك ألقى البازار فى إيران بثقله وقوته فى كفة الخمينى ضد الشاه. وقد امتدت المظاهرات فى إيران إلى أربعين مدينة، وقاطع الطلاب الدراسة، ورفض الخمينى إجراء أى حوار سياسى مع الحكومة الإيرانية، فسقطت الحكومة، وكُلف رئيس الأركان «غلام رضا أزهرى» بتشكيل حكومة جديدة، وتطرق بعض قادة الجيش فى عروضهم لإنهاء المظاهرات، فاقترح الجنرال «غلام أوفيسى» حاكم طهران على الشاه تدمير مدينة قم، وتوقع أن يكون ضحايا هذا التدمير مليون قتيل، فلم يوافق الشاه على هذا الاقتراح، فترك أوفيسى البلاد. تدبير الحوادث قام النظام بتدبير حادثة حرق السينما لتشويه الحركة الشعبية، وكانت النتيجة احتراق أكثر من خمسمائة رجل وامرأة وطفل. وتلكأت الشرطة فى عملية الإنقاذ لتزيد من الكارثة، وبعد عدة أيام من الحادث هاجم الناس قسم الشرطة بالفئوس والمدى مطالبين برأس مدير الشرطة. وكان قد استدعى إلى طهران بعد الحادثة. وقد أدت هذه العملية إلى إفاقة عدد كبير من الذين كانوا مشغولين بحياتهم اليومية. بعد يوم الجمعة الأسود أراد الخمينى أن يزيل هيبة النظام تماما أمام العالم كله، فدعا إلى الإضرابات حتى وصلت إلى معامل التكرير، فلم يكن تأثيرها محليا فقط، بل طالت كل بيت فى أوروبا الغربية وأمريكا وإسرائيل؛ فالبترول عصب الحياة. وكان الخمينى يدعو إلى المواجهة بقوة، ولكن مع ضبط النفس والصبر لتجنب حرب أهلية. وكلما قام النظام بافتعال حريق ظنا منه أن الجماهير ستسلب وتنهب ليشوه صورة المعارضة، فإذا به يجد الجماهير تستجيب للخمينى وتهرع لإطفاء الحرائق دون سلب أو نهب. وقد بلغت قوة الخمينى وتأثيره أن صرح لمراسل «نيوزويك» قائلا إن جماهير إيران تكتفى بالمظاهرات حتى الآن، لكنها سوف تلجأ إلى وسيلة أشد عنفا إذا استدعى الأمر، وإنه قادر على سحق النظام وهو فى منفاه.