فى خطاب «ناري»، يعد الأقوى منذ خطابه فى مؤتمر الأمن الأوروبى فى ميونيخ فى فبراير 2007 الذى اعلن فيه رفضه لعالم القطب الواحد، اكد الرئيس فلاديمير بوتين أنه لا تراجع عن قرار الاعتراف باستقلال القرم وان روسيا ستظل تقف وراء الدفاع عن حقوق ومصالح الروس اينما كانوا. واكد انه لم يكن ليتجاهل رغبات اهل القرم وسيفاستوبول لان ذلك يرقى إلى حد «الخيانة»، معلنا عن قراره بقبول انضمام القرم وسيفاستوبول الى روسيا الاتحادية، استنادا الى ما سبق واعتمده الغرب اساسا لانفصال كوسوفو عن صربيا . قال بوتين ان «للصبر حدودا»، وان الكيل قد فاض بروسيا بعد العديد من حالات التطاول على حقوقها، وان الاحداث فى اوكرانيا هى الخط الذى لم تكن لتستطيع روسيا عنده التراجع". سخر مما يقولونه فى الغرب حول ان الاستفتاء لا يتسق مع مبادئ القانون الدولي!. قال :"حسنا انهم تذكروا اخيرا ان هناك قانونا دوليا يجب مراعاته..حسنا يفعلون ذلك.. ان تاتى متاخرا، خير من الا تاتى ابدا!!. استعاد بوتين ما قالوه حول ان اعلان استقلال كوسوفو عن صربيا اكتسب حقه القانونى من "سقوط الكثير من ضحايا التصفية العرقية"، ليؤكد ان اعتبار ذلك معيارا قانونيا لاعلان الاستقلال "وقاحة اخلاقية"، حين تتحول الضحايا البشرية الى ورقة ضغط لتمرير معاييرهم المزدوجة، وكأن القرم كان يجب ان تنتظر سقوط الكثير من الضحايا كى تكتسب الحق القانونى فى اعلان استقلالها!. استشهد بوتين بالتاريخ تاكيدا ل"روسية القرم وسيفاستوبول"، واستعاد بعض من ماضيها على مدى قرون طويلة تخضبت ارضها خلالها بدماء الجنود الروس. اكد عدم مشروعية تسليمها الى اوكرانيا فى عام 1954، وطالب علماء التاريخ بان يعكفوا على دراسة الاسباب التى دفعت الزعيم السوفييتى الاسبق نيكيتا خروشوف الاوكرانى الاصل الى اهدائها الى اوكرانيا، وإن عزا ذلك الى احتمالات ان يكون ذلك محاولة لاستدرار غفران الشعب الاوكرانى بسبب ما ارتكبه فى حقهم من جرائم وملاحقات إبان سنوات حكم ستالين. قال صراحة لقد سرقوا روسيا واستباحوا وحدة اراضيها، وان الشعب الروسى تعرض على مدى سنوات طويلة لظلم تاريخي". توقف بالكثير من التفاصيل عند التفريط فى الاراضى الروسية، فى اشارة غير مباشرة الى جنوب شرق اوكرانيا واحتمالات ان تتخذ من نموذج القرم سبيلا الى حل مشاكلها الراهنة وهو ما تخشى السلطة الجديدة فى كييف احتمالات وقوعه. وعاد بالذاكرة الى اعتراف روسيا بتبعية القرم لاوكرانيا، ليشير الى ان موسكو كانت فى سبيلها الى التصديق على ترسيم الحدود الجديدة مع اوكرانيا فى مطلع القرن الحالي، على اعتبار انها تتعامل مع شعب شقيق تربطه بروسيا اواصر علاقة تاريخية تعود الى قرون عديدة. لكن ما حدث يقول انها كانت فى سبيلها الى تسليم الاراضى الى الناتو وهو ما لم يكن لموسكو لان تسمح به. استعرض الرئيس بوتين بعضا من «اكاذيب وتجاوزات» الشركاء الغربيين والولايات المتحدة وانتهاكاتهم المستمرة للقانون الدولى، وميثاق الاممالمتحدة، منذ وعد مانفريد فيرنر الامين العام الاسبق لحلف الناتو فى عام 1990 بعدم المضى خطوة واحدة ابعد من حدود المانياالغربية بعد حل حلف وارسو، معيدا الى الاذهان ما فعلته موسكو من اجل توحيد الالمانيتين. قال ان الشركاء الغربيين والولايات المتحدة يتصرفون انطلاقا من «منطق القوة»، وليس بموجب قواعد القانون الدولي، فى الوقت الذى استند فيه الى ما سبق وطرحوه من مبررات للتصديق على استقلال كوسوفو لتاكيد ان ما حدث مع القرم يستند الى ذات ميثاق الاممالمتحدة وقواعد القانون الدولى التى انطلق منها «اعلان كوسوفو». على ان بوتين ورغم ما اتسم به خطابه من حسم واصرار على استعادة الارض، وجمع شمل الروس ولملمة شتات الوطن، فقد حرص على ان يتسم حديثه عن اوكرانيا وشعوبها بطابع التهدئة. استعاد تاريخ الماضى القريب حين كانت كييف "عروس المدن الروسية"، ويوم كانت اوكرانيا «مالايا روس» اى (روسيا الصغرى). قال بكذب الافتراءات التى اتهمته بالدفع بقواته الى القرم معيدا الى الاذهان ان المعاهدة الموقعة حول وجود الاسطول الروسى فى سيفاستوبول تعطى لروسيا الحق فى تواجد 25 الف جندى هناك، وان العدد فى القرم لم يكن تجاوز، حتى بعد امره بتعزيز القوات الروسية فى شبه الجزيرة اكثر من 22 ألف جندى. قال انه يظل يدعو الى العيش فى سلام وحسن جوار. حذر من مغبة دسائس ومخططات الغرب ممن وقفوا وراء احداث "الربيع العربي" انطلاقا من غضب مشروع اجتاح الملايين بسبب فساد السلطة والانظمة هناك، ليتحول «الربيع» إلى «شتاء عربي»، مؤكدا يقظته لدسائس الطابور الخامس" فى بلاده الذى يصبو الى تحقيق مثل تلك الاهداف!. ناشد الشعب الاوكرانى الى تدارك الموقف واستيعاب ما يدور حوله وما ينسجونه من مخططات تستهدف فى نهاية المطاف روسيا. قال بوتين انهم يلعبون فى شوارعنا الخلفية.. فى اوكرانيا حيث يعيش الملايين من الروس، كلا.. اوكرانيا خط أحمر لن نسمح بتجاوزه. استشهد بما قاله المارشال جوكوف قائد القوات السوفيتية حين غزت القوات الهتلرية الاراضى الروسية، وباتت على مبعدة بضع كيلومترات من العاصمة انه اذا ما واصلت الضغط على «الزنبرك»، فلا بد ان يجئ الوقت ليعود ثانية الى وضعيته الطبيعية!. ولم ينس الرئيس الروسى مصالحة تتار القرم الذين كان ستالين طردهم من شبه الجزيرة الى سيبيريا وسهول قزخستان واوزبكستان، بتهمة التعاون مع القوات الهتلرية ابان سنوات الحرب العالمية الثانية، وإن عاد المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفييتى ليرد لهم اعتبارهم فى 1957. قال بضرورة معاودة بحث هذه القضية، مؤكدا اهمية الاعلان فى القرم الجديدة عن اعتبار اللغة التتارية لغة رسمية على قدم المساواة مع اللغتين الروسية والاوكرانية. على ان ذلك كله لن يكون نهاية الازمة التى استطاعت موسكو الاستفادة منها لتحقيق اكبر قدر من المكاسب التاريخية. الشواهد تقول ان اعلان موسكو عن ضم القرم وسيفاستوبول لا بد ان يكون مقدمة لمرحلة جديدة من المواجهة،على ضوء ما قاله ارسينى ياتسينيوك رئيس الحكومة الاوكرانية الجديدة فى كييف ان «ازمة القرم تحولت من كونها قضية سياسية الى قضية عسكرية»، فى اشارة صريحة الى احتمالات الصدام العسكري، وهو ما شهدت شبه الجزيرة بوادره حين تعرضت وحدات اوكرانية وقوات الدفاع الذاتى التابعة للسلطة الجديدة فى القرم الى اطلاق نار راح ضحيته اثنان من الجانبين، قالوا انه من «مصدر واحد». ولعله من السذاجة بمكان تصور ان تكون قوات القرم فى حاجة الى مثل هذه المغامرات غير المحسوبة فى اول ايام اعيادها الوطنية بعد اعلان انضمامها الى روسيا، او كما يقول ابناء القرم فى اول ايام العودة الى «بيت العائلة»!. اما عن العقوبات التى سارعت واشنطن والاتحاد الاوروبى بفرضها ضد عدد من ابرز القيادات الروسية، فقد سخر منها الكثيرون انطلاقا من عدم تأثرهم بها لانهم وببساطة، لا يملكون عقارات وارصدة مالية فى الغرب يمكن تجميدها، فضلا عن ان موسكو اعلنت عن رفضها لها وانها تستعد للرد عليها، كما ابلغ سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية امس نظيره الامريكي، مؤكدا ضرورة التهدئة والبحث عن حلول سياسية ومنها ايفاد بعثة مراقبين من منظمة الامن والتعاون الاوروبى لتقصى الحقائق. وهاهو جو بايدن نائب الرئيس الامريكى يستبق وصول رئيسه اوباما الى أوروبا، بزيارة وارسو التى اعلن منها عن تمسك بلاده بنشر عناصر الدرع الصاروخية هناك مع حلول عام 2018 وتعزيز علاقاتها مع بولندا فى مجال الدفاع، وان عقوبات اضافية تنتظر روسيا وهو ما تستعد له موسكو باجراءات مماثلة، ثمة من يقول إنها يمكن ان تكون اكثر حدة!. ولعلنا نجد فى «تجربتى بوتين» مع كل من جورجيا والقرم ما يقول انه افضل من يجيد قراءة وتحليل الأحداث بما يستطيع معه مواجهة المواقف الاستثنائية بردود افعال تفوق فى تاثيرها وقيمتها الافعال نفسها، وبما يكفل له الخروج منها بمكاسب لم يكن نفسه يتوقعها، وإن كان ذلك لا ينفى ان يكون بوتين تحسب لاحتمالات ذلك قبل «ساعة الصفر» بكثير!!.