قبل بضع سنين، بدا من الملائم أن أخصّ كل عام بموضوعٍ أو قضيةٍ معينة تكون محور الأنشطة والفعاليات الثقافية المختلفة، ليتسع المدى أمام الفهم المتأنى للموضوع أو القضية المحورية لهذا العام أو ذاك.ومن هنا كانت سنة 2010 عاماً للفكر السياسي، وكانت آخر ندوات الصالون الشهرى بساقية الصاوى بالقاهرة لذاك العام، عن: العقد الاجتماعى! وهو الصيغة الضابطة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، على أساسٍ واضح يتلخَّص فى أن هناك عقداً اجتماعياً مُفترضاً، غير مكتوب، يقضى بأن واجب الحاكم هو العمل لصالح المحكومين وفى المقابل يدينون له بالطاعة، فإذا أخلَّ الحاكم بهذا الشرط فَقَدَ الحق فى طاعة الناس له. وهى الفكرة التى عرفناها لأول مرة فى عبارة الخليفة أبى بكر الصديق: «أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم». . ثم تطورت النظرية من بعدُ فى أوروبا، على يد نخبة المفكرين المعروفين باسم فلاسفة العقد الاجتماعي، من أمثال جان جاك رُوسُّو ومونتسكيو وغيرهما من فلاسفة السياسة الذين فصَّلوا الكلام فى هذه النظرية التى صارت فى الزمن المعاصر، لدى الشعوب المتقدمة، من بديهيات الحياة السياسية. فلما اندلعت شرارة الثورة المصرية فى بداية سنة 2011 صار الموضوع المحورى لذاك العام هو «الفقه الثوري» واستعراض الخبرات التاريخية المرتبطة بالثورات، سعياً للوصول إلى فهم عميق لطبيعة الحالات الثورية. . ثم كان موضوع العام 2012 هو «المعرفة»، نظراً لحالة الجهالة والتجهيل وسطوة الحمقى على المشهد المصرى العام، فكانت الآفاق المعرفية المتعددة هى عناوين لقاءاتى الفكرية، ومقالاتى الصحفية، وندواتى فى الصالون الشهرى الذى ينعقد دورياً فى القاهرةوالإسكندرية، وتفاعلى اليومى على الفيسبوك، وغير ذلك من وجوه الأنشطة.. ولما رأيتُ حالة الخبل العام تسود واقعنا المصرى والعربي، جعلتُ سنة 2013 عاماً للفلسفة والمنطق، على اعتبار أن الظواهر المرضية تُعالج بأضدادها. وقبل دخول العام الحالى 2014 طرحتُ على المتابعين ثلاثة موضوعات لنختار واحداً منها ليكون موضوع العام: التصوف بمعناه الإنسانى العام،أو التراث والمخطوطات،أو اليهوديات. فاستقر الرأى على الاختيار الثالث، بعد بعض الاختلاف فى أهمية وأولوية كل موضوع من الثلاثة المذكورة. ومن هنا تمَّ خلال الفترة الماضية طرح موضوعات مثل: الجماعات اليهودية المبكرة (صالون القاهرة بساقية الصاوي) صورة مصر فى التوراة (صالون الإسكندرية) الصيغ المتعدِّدة للتوراة (صالون القاهرة بساقية الصاوي). وبطبيعة الحال، فلم يكن المراد من خوض هذا الغمار هو الحطّ من شأن اليهود وشتمهم، باعتبارهم فى أذهان معظمنا هم العدو الاستراتيجى للعرب والمسلمين، وهو الأمر الذى استغلَّه وأفاض فيه كثيرون ممن يلعبون على مشاعر الناس فى بلادنا، ويسعون إلى النيل من هذا (العدو) بالتجريح اللفظى والإعلاء الوهمى للذات. وتلك، فيما أري، طُرقُ الصبيان وأساليبُ الصغار من الناس، ناهيك عن أن الميل إلى اللعب السياسى بهذه القضية الخطيرة (اليهودية) كان غالباً ما يُخفى المخادعة والتضليل، على النحو الذى رأيناه فى أفعال رئيس الجمهورية السابق، الذى كان يصف اليهود أمام ناخبيه بأنهم أحفاد القردة والخنازير، ثم يصف تباريح الهوى وعمق المودة فى رسائله شبه الغرامية للقادة فى إسرائيل! ولا شك فى أن الكيان السياسى المجاور لنا (إسرائيل) يرتبط بشكل مباشر باليهودية، ويستعير اسمه من لقب «يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» عليه السلام عند المسلمين، الذى انتزعه من الله (جلَّ وعلا عند المسلمين) عندما تعارك يعقوب مع الرب، وغلبه، فصار اسمه «إسرائيل» التى تعنى حرفياً بحسب ما ورد فى التوراة، الذى غالب الله وغلب ! تقول الآية التوراتية: لا يُدعى اسمُك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس، وقدرت.. وفى ترجمة أخري: لأنك غالبت الله والناس، وغلبت. ولكن، وعلى الرغم من هذا، فإن طرح المسائل اليهودية كموضوعٍ رئيس لهذا العام، لا يعنى الدخول فى غمار الواقع السياسى المعاصر، وتلك المشكلات العويصة والعلاقات العجيبة (والمريبة) بين الحكومات العربية ودولة إسرائيل، خلال الستين عاماً السابقة. وإنما المراد هو فهم هذه الظاهرة المركبة، شديدة التعقيد، المسماة اصطلاحاً «اليهودية» و «العبرانية» و «العقيدة الإبراهيمية الحنيفية» وما يرتبط بها من أمور عديدة عاشت مئات السنين، وأزهقت بسببها أرواح كثيرة لغير وجه الله.. أو بالأحري: أُزهقت بسبب الاستغلال السلطوى للدين، وسعياً لإبقاء السلطة السياسية بيدِ الحكام الذين يلعبون بالعقائد فى ميادين السياسة والصراع بين الجماعات التى تظن نتيجة جهلها أنها متنازعة. وكان نخبة من كبار الكُتَّاب والمفكرين المصريين قد تصدُّوا لهذه المهمة، وسعوا إلى «فهم» الثقافة اليهودية المعقدة، لكنهم للأسف لم يستطيعوا مقاومة فكرة (العداء التقليدى لليهود) خصوصاً فى الزمن المصرى الناصرى وما تلاه. وهو ما نراه فى كتاب الباحث المصرى المرموق «جمال حمدان» عن اليهود، وفى موسوعة المفكر اللامع «عبد الوهاب المسيري» عن اليهود واليهودية والصهيونية ، وغير ذلك من أعمال أعلامنا الذين ألَّفوا كتابات مهمة تمسَّكت بأهداب النهج العلمي، لكنها لم تستطع الاستمساك بالموضوعية والانفلات من أسر الميول السياسية المعاصرة. . ومن أراد التأكد من ذلك، فعليه بمقارنة مواقف هؤلاء الأساتذة وكتاباتهم، بموقف وكتابات العلامة «طه حسين» الذى عاش زمنه الذهبى قبل احتدام المشكلة الإسرائيلية المعاصرة، المسماة سبهللةً: مشكلة الشرق الأوسط. وخوض غمار «اليهوديات» خلال هذا العام، لا يعنى إطلاقاً الدخول فى معترك القضية الوهمية المسماة (التطبيع) ومقلوبها المسمى (رفض التطبيع) الذى صار مبرراً لمعظم المثقفين المصريين والعرب كى يستريحوا من بذل الجهد لفهم هذا «العدو» الذى لن «يطبِّعوا» معه، وبالتالى فلا حاجة عندهم لمعرفته أو الاستعداد اللازم لمواجهته ثقافياً. وهذا بالطبع موقف عقيم. والخوض خلال هذا العام فى تاريخ اليهودية وتطورها، وفى المسائل الكبرى المتعلقة بها مثل العلاقة بين أتباع الديانات الثلاث لا يتقاطع بأى شكل من الأشكال مع اعتقادى بأن الساسة العرب فى الستين عاماً الأخيرة، استغلوا التهاويل المتعلقة باليهود، لأغراض تخدم بقاءهم على كراسى السلطة.لا سيما هؤلاء الحكام من ذوى الخلفية العسكرية، الذين أرادوا من شعوبهم أن تنظر إليهم، باعتبارهم «حصن الأمان» حتى كان ما كان من ثورات شعوبهم عليهم. وليس من قبيل المصادفة، كما ذكرتُ مراراً، أن تكون البلدان العربية التى ثارت فى السنوات الثلاث الماضية (مصر، تونس، اليمن، سوريا) كانت كلها محكومة بنظمٍ ذات خلفية «ضُبّاطية» وقادةٍ لم يقودوا بلادهم إلى النصر المؤزَّر المنتظر منهم . لمزيد من مقالات د.يوسف زيدان