لكى نحكى لابد لنا ان نلتزم الصمت قليلا... لنسرح بخيالنا فنرى وجوه المصريين ونتعرف على تلك الأيام و المشاعر والأفكار وحتى الصيحات على طول الشوارع الرئيسية والخلفية التى عرفت تداخلا بين اللون الأحمر الذى امتد حتى أعتاب البيوت ولون الأسفلت الأسود واللون الأخضر الذى كان يسكن القلوب والعقول. ولهذا اسمحوا لى بأن تقدم كل شخصية نفسها دون رتوش أومقدمات. فهذه الثورة وكما يقول د. صبرى السوربونى فى كتابه المهم «الثورة المصرية»- واحدة من أجمل الثورات فى التاريخ وذات عفوية سببتها سياسة الخنق المنظم ضد شعب من أربعة عشر مليون نسمة مجمع كله على حقه فى الاستقلال والحرية. وإن كان من الضرورى أن نضع خطا فاصلا بين الأسباب البعيدة والقريبة فسنة 1914 هى الخط الفاصل حيث إنها السنة التى أعلن فيها الإنجليز بشكل غير شرعى الحماية البريطانية لمصر. سبب آخر تحكيه صحيفة مانشستر جارديان الصادرة فى 12 أبريل عام 1919وهو أن الخطأ يكمن فى تموين الجيش البريطانى. فعلى مدى عامين أو ثلاثة كان تموين مائة ألف رجل يتم على نفقة مصر, وهو ما أدى إلى أزمة اقتصادية. كما أن هناك جنودا انجليز جهلاء يتصورون أن مصر بلد انجليزى والكلمة لإحدى المتطوعات الانجليزيات على صفحات الديلى نيوز حتى اننى سمعت جنديا يقول لو كان الأمر بيدى لما أبقيت على واحد من المصريين بهذه البلاد. أما الروائى الكبير «اى ام فورستر» فيؤكد أنه لما حدث تراجع فى عدد المتطوعين لجأت السلطات العسكرية إلى نظام التجنيد الإجبارى للمصريين وهذا هو السبب. السوربونى كان يرى الثورة من فرنسا وفورستر والمتطوعة وكاتب مقال صحيفة مانشستر فى الأصل انجليز، أما الحقيقة على أرض مصر فكانت تفوق الخيال. عمامة بيضاء وعمامة سوداء: فقد حمل المد الثورى سعد زغلول كما أشار نجيب محفوظ فى ثلاثيته الشهيرة التى دارت أحداثها فى حى الحسين فى زمن ثورة 1919. فما أن بدأت الأحداث باعتقال أعضاء الوفد فى السابع من مارس حتى انطلق إلى الشوارع طلاب المدارس الحكومية والأزهر الشريف. ومات من مات وجرح من جرح حتى سجل التاسع من مارس قمة الأحداث، ووقتها عرفت أسماء, منها الشيخ أبو الفضل الجيزاوى الذى صدر قرار بتعيينه شيخا للأزهر قبل الثورة بعامين و شغلته الأحداث عن التدريس والكتابة. فاندلاع الثورة من ساحة الأزهر هو أجلّ مهمة- فى رأى كثير من الوطنيين- يمكن أن يؤديها شيخ تجاه بلاده وخاصة عندما رفض طلب الانجليز بإخلاء ساحة الأزهر الشريف من الثوار. كما ذاع اسم الاب سرجيوس على ألسنة العامة بعد أن قام الانجليز- كما قال لى أمير نصر المدرس بالكلية الاكلينيكية اللاهوتية- بنفيه مع النقراشى باشا والشيخ محمد الغاياتى إلى رفح لمدة ثمانين يوما بعد أن ألقى خطبة فى مسجد ابن طولون وأخرى فى كنيسة العذراء بالفجالة ليندد باعتقال سعد زغلول. وانضم إلى المظاهرات القريبة من بيته بالفجالة حتى وصل إلى الجامع الأزهر، واعتلى المنبر، وألقى خطبته الشهيرة المدوية التى نجحت فى اثارة الشعب ضد الانجليز. فمعظم خطبه وقتها كانت موجهة للوحدة الوطنية وخروج الاحتلال من مصر. و لهذا كان يهاجم القصر أيضا حتى انه ظل لمدة 59 يوما متواصلا يخطب فى الأزهر وبعض المساجد والكنائس. ويوم أفرج عن زغلول ورفاقه ظل يخطب واقفا فى ميدان إبراهيم باشا المعروف بميدان الاوبرا فوق احدى السيارات لتسع ساعات كاملة. ويذكر انه كان صاحب شخصية ثائرة تهزأ بعنف الانجليز, حتى انه وقف يوما يطالب المتظاهرين أمام فندق الكونتيننتال بأن يهتفوا للانجليز «الذين بظلمهم و استبدادهم قد وحدوا صفوفنا جميعا لا فرق بين مسيحيين و مسلمين لكى نطالب بالحرية والاستقلال.» كما يحكى انه دخل مرة مع الشيخ محمود أبو العيون الذى حكم عليه أيضا بالسجن وكان شيخا لمعاهد أسيوط والزقازيق وطنطا والاسكندرية ثم سكرتيرا للأزهر، واشتهر بمقولة أن «طربوش رئيس الوزراء بعمامة الشيخ أبو العيون» وتوجه إلى احد المساجد ليعلن من منبره أن الوطن لا يعرف مسلما ولا مسيحيا بل مجاهدين بغير تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء. ولم يكن سرجيوس حالة خاصة فما أن علم كبار الأقباط عند اجتماعهم فى نادى رمسيس بجمع التوقيعات للوفد حتى ذهبوا لمقابلة سعد زغلول لاختيار عضو قبطى وهو واصف غالى. وفى مرحلة أخرى انضم سينوت حنا وجورج خياط . والمعروف أن علم الثورة وقتها كان فكرة صفية زغلول وقد ساعدها فى حياكته زوجتا سينوت ومرقس حنا وكان مصنوعا من الحرير. شفيقة الشهيدة: أما شفيقة محمد فلم تكن قد وصلت إلى عامها الثامن عشر حين لقيت حتفها برصاص الانجليز بعد أن اندفعت إلى الشارع منددة بما حدث لزغلول ورفاقه. أما أهل حى الخليفة فقد احتسبوها من طبقة المتنورين قبل أن يحتسبوها من الشهداء. فقد نجحت فى الحصول على الشهادة الابتدائية، وكانت ممن تعلمن أن حى الخليفة موصول ببر مصر وأنه لكى يكون لها أسرة وبيت لابد وأن تعيش حرة فى وطن مستقل. فلم يخطئ الرافعى حين وصف ثورة نساء مصر اللاتى مررن بدور القنصليات لتقديم احتجاجات وفى صفين منتظمين طفن الشوارع الرئيسية فى موكب كبير هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية. فلفت موكبهن أنظار الناس وخرج أكثر أهل القاهرة لمشاهدتهن وترديد الهتافات. على خشبة المسرح: و هكذا لم يتوقع أحد كل هذا الحلم الجميل. فهل كان يظن أحد أن يأتى يوم يجمع فيه المصريون التبرعات ليساندوا محمود مختارفى إخراج تمثاله «نهضة مصر»، وهل كان يعرف أحد أن المسرحية الغنائية «صلاح الدين» التى كان الشيخ سلامة حجازى يقف على المسرح كل ليلة ليقدمها رغم مرضه فيصفق الجميع تحت تأثير الشعور الوطنى القوى إزاء فارس عظيم يدافع عن بلاده ستكون فاتحة خير لمسرحيات وأغنيات أكثر ازدحاما بالمشاعر الوطنية عبر فيها سيد درويش وشاعره بديع خيرى عن صوت الوطنية المصرية التى وحدت أحلام المصريين فى التخلص من الانجليز، وتزاملت مع مجموعة من الاسكتشات الفكاهية الساخرة لفنانين أمثال حسن فائق. أما توفيق الحكيم فقد كانت روايته «عودة الروح» أشبه بالمفاجأة وخاصة أن أحداثها تقع فى حى شعبى ووطنى وهو حى السيدة زينب رضى الله عنها حيث تعيش الأسرة التى يطلق أفرادها على أنفسهم اسم الشعب ليبقى أهم ما كتب الحكيم ليلخص هذه الحالة المصرية التى انطلقت شرارتها فى التاسع من مارس واستمرت... فأمة أتت فى فجر الانسانية بمعجزة الاهرام لن تعجز عن الاتيان بمعجزة أخرى أو معجزات. هى أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد. حقا ان نشيد الموتى يتكرر هنا فى مصر وفى كل عصر. الكل فى واحد..الكل فى واحد والا لن تكون مصر.