الفكرة توحى بأن هناك انفصالا شعوريا وقطيعة يحفظ التاريخ لشيخ الأزهر إبراهيم الباجورى قولته للخديو عباس الأول حين حاول نفى الأقباط «لماذا تغدر بهم وتخرجهم من بلادهم؟!» من بين المصطلحات التى يشتهر استخدامها فى حياتنا الثقافية وبالأخص بين علماء اللغة هذين المصطلحين «صواب مهجور» و«خطأ شائع».. وعلى طريقة علماء اللغة يمكن أن نقول إن من هذا النوع الثانى هذا الخطأ الذى شاع واشتهر بين كثير ممن يكتبون فى الشأن الوطنى المصرى باستخدام عبارة «عنصرى الأمة» إشارة إلى المسلمين والمسيحيين فى مصر. وكثيرا ما تحركت ألسنة المتحدثين وسالت أقلام الكاتبين بهذه العبارة الخاطئة والموهمة.. فأولا هى خاطئة لأن المصريين جميعا فى حقيقة الأمر عنصر واحد من وجهة نظر علم الأجناس. وثانيا هى عبارة خادعة وموهمة، لأنها توحى أن هناك انفصالا شعوريا وقطيعة وجدانية، وتوهم بوجود عزلة أو انغلاق اجتماعى، أو اختلافات حادة فى العادات والتقاليد والأعراف.. وكل هذا هو على خلاف الواقع والحقيقة، والإيحاء به ضرب من الوهم ونوع من التزوير. إن من ينظر فى الحياة اليومية للمصريين ويتأمل فى عاداتهم وأعرافهم لن يخرج إلا بنتيجة واحدة، أنه أمام شعب واحد وعنصر واحد وأمة مصرية واحدة.. وهذا هو ما جعل اللورد كرومر يقول: «لا تعرف فى مصر مَن المسلم ومَن المسيحى إلا عند دخول واحد منهما إلى المسجد والآخر إلى الكنيسة». وفى ظل هذا النسق عاش المسيحيون والمسلمون فى مصر حياتهم جنبا إلى جنب.. وفى ظله أيضا سيستمرون -إن شاء الله- فى تجويد حياتهم وبناء نهضتهم، وسيصطفون دوما فى مجابهة تحديات حاضرهم ومستقبلهم. وتعالَ معى عزيزى القارئ نقلب سويا صفحات «ألبوم الوحدة الوطنية» الكبير.. لنختار منه بعض الصور المشرقة، ولنتوقف أمامها بالنظر والتأمل.. فظنى -بل واعتقادى- أن فى ذلك تأكيدا لما ذكرناه عن وحدة العنصر المصرى، وتثبيتا لمن تساورهم الشكوك فى ذلك، ودحضا وإسكاتا لهؤلاء الذين يزرعون تلك الشكوك ممن يتقنون صناعة الكراهية ويجيدون هندسة الفتن. ولنبدأ من العصر الحديث حيث أدخل محمد على المصريين إلى الجيش واستعان بالأقباط فى إدارة الشؤون المالية العامة للدولة الجديدة.. وجاء ابنه سعيد باشا وأسقط الجزية عن أقباط مصر وضمهم إلى الجيش فى عام 1855. ومن قبلها وبعد تولى عباس حلمى الأول، حفيد محمد على باشا، حكم مصر فى 1848م نفى عديدا من العلماء إلى السودان وفى مقدمتهم رفاعة الطهطاوى ثم عزم على التخلص من الأقباط، إما بطردهم إلى السودان وإما بتدبير مذبحة لإبادتهم، فتصدى له شيخ الأزهر إبراهيم الباجورى منتقدا وموبخا «إن دين الإسلام يأبى عليك هذه الفعلة الشنعاء، فالأقباط هم أهل ذمة ويجب احترامهم وتوفير الأمان لهم»، وقال له قولته المشهورة «لماذا تغدر بهم وتخرجهم من بلادهم؟!».. فكان ذلك امتدادا لتماسك قوى بين الأزهر والكنيسة منذ حملة بونابرت وإلى ثورة 1919م. وعندما نفى سعد زغلول إلى «سيشيل» احتج الوفد المصرى على نفيه ووقع البيان واحد مسلم هو مصطفى النحاس وأربعة من المسيحيين هم واصف غالى، وسينوت حنا، ويصا واصف، ومكرم عبيد. وعندما نفى وكلاء الأمة المصرية الستة كانوا أربعة مسلمين سعد والنحاس وفتح الله بركات وعاطف بركات و2 أقباط سينوت حنا ومكرم باشا عبيد. وأعضاء الوفد الذين حُكم عليهم بالإعدام كانوا سبعة، ثلاثة مسلمين وأربعة أقباط.. حمد الباسل وعلوى الجزار ومراد الشريعى.. ومرقص حنا وواصف غالى وجورج خياط وويصا واصف. وفى أثناء الأحداث الساخنة لثورة 1919 وقف القمص سرجيوس خطيبا فى جامع الأزهر معلنا رفض حماية الاحتلال للأقباط وهتف: «إذا كانت ذريعة الإنجليز لاحتلال بلادنا هى حماية الأقباط.. فليمت الأقباط وليعش المسلمون أحرارا، ولتحيا مصر حرة مستقلة». ورد عليه الشيخ محمد عبد المطلب من الجهة الأخرى قائلا: «كلانا على دين هو به مؤمن، ولكن خذلان البلاد هو الكفر». وفى مظاهرة بميدان الأوبرا طلب من المتظاهرين أن يرددوا وراءه «يحيا الإنجليز» فأبدوا استغرابهم، ثم هتفوا قبل أن يوضح لهم قائلا «نعم يحيا الإنجليز لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة». وقد لا يعلم كثيرون أن سرجيوس هو أول رجل دين مسيحى يعتلى منبر الأزهر الشريف، حيث ظل فيه نحو 5 أشهر يخطب فى الناس بصحبة الشيخ محمود أبو العبر ومناديا بالوحدة الوطنية والكفاح ضد الإنجليز حتى لقبه سعد زغلول ب«خطيب الثورة»، وسرجيوس هو صاحب شعار «يحيا الهلال مع الصليب» خلال ثورة 1919 والذى تبناه حزب الوفد فى ما بعد، وفقا لما جاء فى مذكراته الشخصية. وفى السرادق الذى أقيم لتكريم سعد بعد عودته من المنفى هتفت الجماهير باسم سرجيوس وقال سعد «فليسمعنا خطيب الثورة كلمته». فرد عليه «والله إنك لمجنون يا سعد» فبهت الجميع، ثم استطرد وقال: «والله إنك لمجنون يا سعد؟ تقدم على دولة عظمى خرجت منتصرة من حرب عظمى وتملك كل شىء ولا تملك أنت شيئا، ثم تنتصر عليهم، والله إنك لمجنون يا سعد». فوقف سعد ضاحكا قائلا «مجنون والله أنت يا سرجيوس!!». وفى إحدى خطبه هاجم سرجيوس الإنجليز فتقدم نحوه جندى إنجليزى مشهرا مسدسه، وعندما هبت الجماهير المحتشدة محذرة إياه «حاسب يا أبونا هيموتوك».. قال بثبات «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يقتلنى ليرى العالم كيف يعتدى جنود الإنجليز على رجال الدين». ومن الصور والمشاهد التى ستظل خالدة فى الأذهان ما حدث من تداعيات ردا على تعيين يوسف وهبة رئيسا لوزراء مصر فى 21 نوفمبر سنة 1919 وهو من القبط، وكان معاديا ل«الوفد»، وقد قبل رئاسة الوزارة حين امتنع الوطنيون، وكان هذا القبول خيانة فجة لثورة 19، فعلى الفور أعلنت الرموز القبطية الدعوة للاجتماع بالكنيسة الكبرى، وحضر إليها نحو ألفين امتلأت بهم الكنيسة ورأس الاجتماع القمص باسيليوس، وخطب عدد كبير، منهم القمص سرجيوس، وتوفيق حبيب الذى طالب الجمع بإعلان براءته من يوسف وهبة.. وفى النهاية أرسل الحاضرون برقية إلى يوسف وهبة جاء فيها: «الطائفة القبطية المجتمع منها هنا ما يربو على الألفين فى الكنيسة الكبرى تحتج بشدة على إشاعة قبولكم الوزارة.. إذ هو قبول للحماية (البريطانية) ولمناقشة لجنة ملنر، وهذا يخالف ما أجمعت عليه الأمة المصرية فى طلب الاستقلال التام ومقاطعة اللجنة». ولم يمر شهر على قبول وهبة للوزارة، حتى تربص له شاب فى مقهى ريش وألقى على سيارته فى أثناء عبورها ميدان سليمان باشا قنبلتين انفجرتا، ولكن الرجل المستهدف قد نجا.. وألقى القبض على الشاب صاحب محاولة الاغتيال وهو يهتف «ليحيا الوطن».. وهنا كانت المفاجأة التى يطفر لها الدمع ويهتز الوجدان، فقد تبين أنه طالب مسيحى فى كلية الطب اسمه عريان يوسف سعد بن يوسف بك سعد من ميت غمر. واعترف الفدائى الأرستقراطى أنه قد تطوع بذلك لدوافع وطنية، وحتى لا يكون الاغتيال على يد مسلم فتثور الفتنة. نجا يوسف وهبة وحكم على عريان بالأشغال الشاقة عشر سنوات، لكنه لم يقضها كاملة، فقد أفرج عنه بعد 4 سنوات ضمن من شملهم العفو فى وزارة سعد زغلول. وننتقل إلى صورة أخرى فى غاية الإشراق، ففى الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى أعقاب دستور 1923، رشح «الوفد» ويصا واصف -الصعيدى الأصل- فى دائرة المطرية دقهلية التى لا يوجد فيها قبطى واحد، ومع ذلك فاز مكتسحا منافسة المسلم، وقد وقف بعد ذلك ويصا واصف فى إحدى دوائر المنيا يقول: «إننى أمثل فى البرلمان دائرة لا قبطى فيها غير نائبها». وإذا تقدمنا إلى الأمام وبالتحديد يوم 8 يوليو 1930، فإننا نتوقف باحترام وخشوع أمام هذه المروءة النادرة والموقف النبيل الذى جسده لنا القيادى الوفدى الجليل سينوت حنا على أرض المنصورة، فى أثناء زيارة الزعيم مصطفى النحاس للمدينة، وكان سينوت يشعر فى قرارة نفسه منذ غادر القاهرة صباحا أن الرحلة لن تمر بسلام، وأن حكومة إسماعيل صدقى لن تتورع عن تدبير خطة دنيئة لاغتيال النحاس فى أثناء طوافه بشوارع المنصورة.. وعندما تحركت السيارة بالنحاس كان يجلس على يمينه محمد نجيب الغرابلى باشا وإلى يساره سينوت حنا بك.. وفجأة حاول أحد الجنود الكارهين للنحاس توجيه طعنة غادرة فى صدره، فما كان من سينوت حنا إلا أن برز بصدره ليفتدى الزعيم ويتلقى الطعنة بدلا منه.. فانغرست الطعنة فى أعلى ذراعه اليمنى وتدفقت دماؤه الطاهرة على ملابس النحاس، ووصف الأطباء حالته على النحو التالى: «جرح فى أعلى الذراع اليمنى عند المفصل بعمق 70 ملليمترًا وباتساع 10 سنتيمترات وكسر فى إحدى عظمتى الذراع ويحتاج إلى علاج أربعة أسابيع». وجاء صوته خافتًا «الحمد لله إذ لم يصب الرئيس -النحاس- بشىء». وفى خطابه بالمنصورة تحدث مصطفى النحاس عن إصابة سينوت حنا قائلا: «كان عن يسارى وكانت الطعنة مصوبة إلى ظهرى، فدافع عنى وتلقى الطعنة بذراعه، حفظه الله»، ووصف النحاس.. سينوت حنا قائلاً إنه «أعز على نفسى من نفسى». وعن وفاة سينوت حنا يقول الكاتب الوفدى الكبير جمال بدوى فى كتابه «نظرات فى تاريخ مصر»: «ولكن تأثير الطعنة المسمومة كان أكبر من جهود الأطباء ودعوات المخلصين، فصعدت روحه الوثابة إلى بارئها، ومضى إلى ربه راضيا مرضيا، وبقيت قصته رمزا حيا على الشجاعة والمروءة والتضحية والتلاحم المقدس بين أبناء مصر الخالدة». ومن عالم السياسة إلى عالم الثقافة والفكر، نطالع هذه الصورة الجميلة ونختم بها، ليس لأن الصور والمواقف قد انتهت، وإنما التزاما بالمساحة المحددة للكتابة ليس إلا.. عندما توفى الكاتب والمفكر الإسلامى الكبير خالد محمد خالد فى آخر فبراير 1996.. كتبت فى رثائه الكاتبة المسيحية سهير إسكندر فى صحيفة «الأخبار» كلمات غاية فى الإبداع والتأثير تقول فيها: «وبعد فقد أهدانى الأستاذ خالد فى عيد الفطر الماضى مديحا من الإمام البوصيرى لنبى الإسلام الكريم، كنا نسمعه معه فى الأيام الجميلة الماضية مسجلا بصوت جميل وشرح بليغ من الأستاذ.. اليوم أقرؤه وحدى بين الدمع الشجى والود النقى.. أستعيد صورة خالد محمد خالد التى محيت.. وأتطلع إلى روحه لعلها تهنأ وتسعد -كما كانت دائما- بذكر جمال النبى: وكيف يدرك فى الدنيا حقيقته/ قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر/وأنه خير خلق الله كلهم». أظن، وبعد كل ذلك أنه لم يعد من الملائم ولا من الموضوعى أن نجد بيننا من يقول «عنصرى الأمة»، فهذا كما ذكرنا فى مستهل الكلام «خطأ شائع»، لا بد أن نتجاوزه إلى «الصواب المهجور» وهو «عنصر واحد وأمة مصرية واحدة».. وأختم بكلمات المستشار طارق البشرى فى خاتمة كتابه الضخم والموسوعى «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» حيث يقول: «ونحن لا نبحث عن صيغة فناء، ولكن عن صيغة وجود.. وجود حى قوى.. وحسبنا على هذه البسيطة: المساواة والمشاركة فى الوطن، والتواد والتحاب فى العيش، والتزاور فى الدور، والتجاور فى القبور».