لعله يمكن الجزم بأن أكبر وأخطر مرض يهدد الإنسانية منذ نشأتها وحتى الساعة هو داء الطائفية والتعصب والذى عرفته كل العصور وعركته كل الأمصار منذ زمن بعيد، حتى قبل ظهور الأديان التوحيدية، لاسيما وأن الطائفية أنواع منها ما هو دينى ومنها هو سياسى وعرقى وأيديولوجى وجميعها فى نهاية الأمر تصب صبا فى دائرة الانتقاص من أضداد الطائفية أى من المواطنة والتعددية. لماذا يكتسب الحديث عن الطائفية اليوم بعدا خاصا متميزا؟ السبب واضح وبسيط وأغلب الظن مرده إلى أن أحوال منطقة الشرق الأوسط الآنية وما تمر به ثورات وفورات بدأت سياسية تحررية ولاحقا نحت منحى طائفيا مذهبيا غير سديد، ومعلوم للكافة أن صراع الطائفية المرتكز على المطلقات والروحيات والأديان، هو أشدها فتكا، ولا يغيب عن ناظر القارئ اليوم أن العالم العربى تحول فى العامين الأخيرين من صراع الأحزاب والنظم السياسية إلى مواجهة ومجابهة للتيارات الدينية، وتكاد المنطقة تشتعل من جراء تلك المخاوف. ماذا تعنى الطائفية بداية؟ وماذا عن أخطر أصنافها وأطيافها؟ ثم إلى أين السبيل حيث الدواء الناجع لإطفاء حرائقها؟ علامات استفهام ثلاث تحدد فى واقع الأمر الغرض من هذه القراءة إذ يذهب علماء الاجتماع السياسى إلى أن مفهوم الطائفية هو مفهوم مركب وليس ببسيطا، ومشتق من عدة كلمات مثل طاف، يطوف، طواف، طائف، وعليه فإن البناء اللفظى يحمل معنى تحرك الجزء من الكل دون أن ينفصل عنه بل يتحرك فى إطاره وربما لصالحه. والطائفية على هذا الأساس هى انتماء لطائفة معينة دينية أو اجتماعية ولكن ليست عرقية فمن الممكن أن يجتمع عدد من القوميات فى طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم. ماذا عن أخطر أنواع الطائفية التى تهاجم عالمنا العربى مؤخراً؟ نختار ثلاثا منها حتى لا نشق على القارئ، وهى الطائفية السياسية، والطائفية المذهبية، والطائفية العلمانية وجميعها وأن اختلفت فى الشكل تتفق فى المضمون العنصري. لتكن البداية مع الطائفية السياسية، والتى تعكس فشلا واضحا فى بناء الدولة العصرية التى ترتكز على مفهومى المواطنة والتعددية، وهنا يبرز أمامنا نموذجان للطائفية السياسية فى لبنان وفى العراق، فكلاهما تكثر فيها الاتجاهات الحزبية والتوجهات الأيديولوجية، وعليه فإن الوعاء الثقافى والحضارى للبلدين تحطم على صخرة المحاصصة السياسية الطائفية. النوع الثانى من أنواع الطائفية وهو بالفعل أخطرها، هو المبنى على أحجار زاوية دينية عقائدية، وهنا الطامة الكبري... لماذا؟ لأن الأديان تنزيل إلهى لا يقبل الصراع، فى حين أن السياسة من أعمال البشر يؤخذ منها ويرد عليها، ولذلك فالطائفية الدينية أو المذهبية تسعى إلى القضاء على الآخر فلا عيش ولا تعايش مع تلك الطائفية، وهذا المثل البالغ السوء يظهر جليا فى بلاد مثل باكستانوالعراق، حيث نرى تفجير المساجد السنية والشيعية بالتبادل، فى إشارة إلى عدم إمكانية قبول فكرة عيش الآخر المخالف عقائديا، مع ما يستتبع ذلك من تعميق للكراهيات وتأصيل للعداوات، والدولة التى تعانى من المذهبية الطائفية هى «أدولة ناقصة» حسب وصف كارل ماركس . يتبقى إذن الحديث عن النوع الثالث من أنواع الطائفية التى تعانى منها دول الشرق ألأوسط خاصة، وهى الطائفية العلمانية، والتى ترى أصوات كثيرة أنها الضد والمعادل الموضوعى المقابل للطائفية المذهبية أو الدينية. على سبيل المثال تبشر العلمانية العربية فى دعايتها الراهنة بأنها تحارب الطائفية، وهى تحت هذا الزعم تعمل على فصل الإسلام عن شتى نواحى الحياة بحجة أن الطريق لإلغاء الطائفية يمر عبر تنحية الدين الإسلامى عن الدولة والمجتمع باعتبار أن الإسلام أو التوجه الإسلامى هو الطائفية بعينها. لماذا انفجر حديث الطائفية تخصيصا وتحديدا فى عالمنا العربى فى هذه الآونة؟ ربما كانت الثورات العربية أو الفورات الجماهيرية الأخيرة هى السبب الرئيس الذى قاد شعوب المنطقة إلى فخ الطائفية والانقسام، غير أنه يمكننا القول إضافة إلى ذلك إن السبب الرئيسى هو وجود االقابلية للطائفية«، على وزن ما قال به المفكر الجزائرى الكبير مالك بن نبى عن القابلة الاستعمارية فى الدول التى تعانى من تبعات الاستعمار. ماذا عن أنجح السبل وأفعلها لمحاربة تلك الطائفيات العنصرية البغيضة ؟ السبيل الأساسى لإطفاء نار أى حريق، هو تفادى اشتعال الحريق نفسه، بنفس الوزن الذى نقول به أن أفضل طريق لمحاربة الطائفية هو قطع الطريق عليها من خلال مسارين لا ثالث لهما الأول هو تعميق مفهوم وحياة وممارسة المواطنة، والثانى هو فتح مسارب الأمل أمام طرح التعددية رغم صعوبة القول بها أول الأمر.. من أسف شديد نحن نعيش حالة من السكولائية الاجترارية المريرة، أى نعود بالذهنية الطائفية إلى الخلف، على كافة إشكالها وأنواعها، وجميعها تتصل بالآخر، والمحصلة النهائية واحدة، والحال يغنى عن السؤال من العراق الجريح، إلى سوريا الذبيح، وصولا لمصر . لمزيد من مقالات إميل أمين