لن تشهد مصر استقرارا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا؛ رغم إقرار الدستور وحتى بعد إجراء الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية، بغير إقامة نظام اقتصادى إجتماعى جديد، دعوت اليه وقدمت تصورى له، قبل وبعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو. وللأسف فان دستور 2014، رغم ما تضمنه من حماية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لم يحدد طبيعة النظام الاقتصادى الإجتماعي، بأهدافه وركائزه. وبالتعلم الايجابى من الخبرة التاريخية المصرية، وخبرة سقوط النظم الأصولية، سواء الإشتراكية أو الرأسمالية، فى العالم، كتبت وأكرر أنه على هذا النظام الجديد أن يحقق أهداف: التخصيص الرشيد للموارد مع عدالة توزيع الدخل، وتعظيم الإنتاجية والتنافسية مع تحقيق التنمية الإنسانية، وتصنيع مصر مع اللحاق باقتصاد المعرفة، والتنمية المستدامة والمعتمدة على القدرات الوطنية مع بناء أسس الاندماج المتكافيء فى الاقتصاد العالمي، وردع الفساد مع كبح الجشع.. وأن يجمع بين أدوار: الدولة والسوق، وقطاعى الأعمال العام والخاص، والتخطيط والمبادرة، والانفتاح والسيادة. وإجابة عن السؤال المهم: بكم ومن أين؟ الذى طرحه المشير السيسي، مشيرا الى مشكلة قصور الموارد المصرية المتاحة مقارنة بتعاظم حاجات المصريين، أقول: إن الإجابة تكمن فى بناء نظام اقتصادى اجتماعى على الصورة التى أوجزتها، إذا أردنا تسريع التنمية لتلبية الحاجات الأساسية والتطلعات المشروعة للأمة. وإذا تعلمنا من الخبرة العالمية فان تعظيم الموارد لم يتحقق بغير التصنيع، أى بتبنى سياسات اقتصادية تضمن أسبقية تنمية وتعميق وتنويع الصناعة التحويلية، باعتبارها قاطرة التنمية الشاملة. وبغير هذه الفريضة الغائبة عن الحكومة والمعارضة فى مصر، منذ وأد مشروع ثورة يوليو للتصنيع، لن يتمتع المصريون بأمنهم الإنساني؛ فيتحرروا من الفاقة والحاجة والخوف، بفضل ما يتيحه التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية والدخل، وبفضل تعزيزه لمرتكزات القوة الشاملة والأمن القومي. وأكتفى هنا بتسجيل حقيقتين. الحقيقة الأولى أن مؤشرات الأداء الرسمية تؤكد حتمية التحرر من وهم إعادة انتاج النظام الاقتصادى الاجتماعي، الفاشل والظالم، الذى فجر ثورة 25 يناير. وقد أوجزت فى مقالى (أداء الاقتصاد المصري، الأهرام 8 أكتوبر 2006) ما عرضه تقرير لوزارة التجارة والصناعة من مؤشرات بالمقارنة مع أداء اقتصادات اثنتى عشرة دولة، متقاربة فى مستويات دخلها مع مصر, ومنافسة للاقتصاد المصري، فى الخمس الأول من القرن الواحد والعشرين. وسجلت من التقرير: أن متوسط معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى فى مصر قد تراجع باستمرار، وشغلت المركز العاشر، وأن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى مصر قد تدني، وشغلت المركز الحادى عشر، وأن متوسط معدل نمو الاستثمار المحلى الإجمالى كان سلبيا فى مصر، وشغلت المركز الثانى عشر، وان متوسط معدل الاستثمار المحلى الإجمالى فى مصر كان الأدني، وشغلت المركز الأخير، وارتبط هذا بتدنى معدل الادخار المحلى الإجمالى فى مصر, التى شغلت المركز العاشر. وأن مصر، رغم تدنى الاستثمار، قد عانت من فجوة بين الادخار والاستثمار, انعكست فى ارتفاع عبء الدين الخارجي؛ رغم انفرادها بإسقاط وإعادة جدولة مديونيتها الخارجية، وأن إجمالى الدين المحلى قد تجاوز الناتج المحلى الإجمالي، بآثاره السلبية على الاستثمار وتكلفة المعيشة والإنفاق العام على التعليم والصحة ودعم الفقراء والضمان الإجتماعي... إلخ وأن متوسط صافى تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة الى مصر كان متدنيا، وشغلت المركز العاشر، وكان معدل صافى الاستثمار الأجنبى المباشر للناتج المحلى الإجمالى فى مصر هو الأقل باستثناء أندونيسيا, التى بلغ معدل ادخارها المحلى الإجمالى أكثر من ضعف نظيره فى مصر!! وأن حجم الاحتياطى من النقد الأجنبى لدى مصر كان الأعلي، لكن المبالغة فى تكوينه كان هدرا لجانب هام من موارد الدولة لا يتم حقنه فى النشاط الاقتصادي!! وأن معدل البطالة فى مصر زاد على نظيره فى ثمان من الدول موضع المقارنة!! وأن مصر وفق مؤشر درجة تنافسية بيئة الأعمال احتلت المرتبة قبل الأخيرة بين دول المقارنة. والحقيقة الثانية، أنه فى النظام الاقتصادى الاجتماعى الجديد لا غنى عن قطاع أعمال رأسمالى خاص، يتحدد حجم مشروعاته كبيرة أو متوسطة أو صغيرة وفقا لاحتياجات التنمية الشاملة ومقتضيات التقدم التكنولوجى وتكامل عمليات الانتاج والتوزيع، وتتحدد حوافز تشجيعه بمدى إلتزامه، أو إلزامه، بمسئوليته المجتمعية، التنموية والوطنية. وليس اقتصاد السوق مرادفا على الدوام لإهدار هذه المسئولية من جانب الشركات ورجال الأعمال من المنظمين والمديرين. وهكذا، وعلى خلاف اقتصاد السوق الحر، ارتكز اقتصاد السوق الاجتماعى الى منطلقات نظرية وسياسات عملية تعزز مفهوم وممارسة المسئولية المجتمعية لقطاع الأعمال الخاص؛ بمعنى مراعاة مصالح المجتمع واحترام حقوق الشركاء من عاملين ومستهلكين وموردين ومنافسين.. إلخ. وأكرر هنا ما قلته بمقالى (فى أصول المسئولية المجتمعية لرجال الأعمال، الأهرام 3 مايو 2009): إنه لا خلاف على أن رجل الأعمال يسعي, وينبغى أن يسعي, الى تحقيق أقصى ربح ممكن, لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيري, ولأن تعظيم الربح يوفر الحافز لرجل الأعمال, المبادر والمنظم والمخاطر والمبتكر, ليكون فاعلا لا غنى عنه فى عملية التنمية والتصنيع والتقدم. لكن هدف الربح, وهو منطقى وتاريخى ومشروع, لا يتعارض مع التزام أو إلزام رجل الأعمال بمسئوليته المجتمعية, التى تعنى ربط ربحية المشروع بربحية المجتمع. وقد تصاعدت الدعوة الى هذه المسئولية فى البلدان الرأسمالية المتقدمة بغرض تقليص عواقب تقليص الدور الاقتصادى والاجتماعى للدولة؛ فى سياق الردة عن دولة الرفاهة؛ المعنية بالمصلحة العامة وربحية المجتمع, الى السوق الحرة؛ المعنية بالمصلحة الخاصة والربح الفردي. ثم انتقلت هذه الدعوة الى مصر وغيرها من البلدان النامية، التى عانت من غلبة نزعة التراكم الريعى للثروة الفردية على التراكم القدرة الانتاجية للأمة من جانب جماعات مصالح طفيلية؛ هيمنت جرّاء إملاءات مؤسسات العولمة الاقتصادية المتوحشة وسياسات الجشع المنفلت والفساد المنظم. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم