كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وراء المظاهرات المليونية التي احتضن بها الشعب المصري ثورة الكرامة بعد أن فجرها الشباب, ووفرت المظاهرات المليونية بدورها الشرعية التي انتصرت لها قوات الشعب المصري المسلحة. بعد أن أعلنت بوضوح قاطع أن واجبها حماية الوطن, ولم ولن تستخدم سلاحها ضد أبناء الوطن. ومهما يكن ما ينسب من دور لمنكوبي الثورة أو القوي المضادة للثورة, فان الحركات الاحتجاجية الفئوية, التي أعقبت الثورة, قد عبرت عن إحباط ظاهر وغضب مكبوت يجد جذوره في إخفاق النمو الاقتصادي في ظل النظام السابق عن تحقيق التنمية وتوفير العدالة. وإدراكا لأن حجم ونوع الصادرات مؤشر كاشف لمستوي ونوعية التنمية والتصنيع, ومن ثم مستوي المعيشة ونوعية الحياة, كتبت في مقال نحو تعظيم صادراتنا الصناعية, المنشور بجريدة الأهرام, في23 مايو2000, أتساءل لماذا لا نصدر؟ وبينت كيف أن معدل نمو صادرات مصر من السلع, المصنعة وغير المصنعة, كان خلال التسعينيات أقل من المعدلات المقارنة في العالم من حولنا. وهكذا, فان متوسط معدل النمو السنوي لقيمة الصادرات السلعية في مصر لم يتجاوز4.3 في المائة مقابل1.7 في المائة للمكسيك, و8.6 في المائة لإندونيسيا, بين عامي1990 و.1998 وكان انخفاض نمو صادراتنا السلعية وتواضع قيمتها يرجع الي ضآلة وانخفاض القيمة المضافة والمحتوي المعرفي لصادراتنا من السلع المصنعة, التي لم تتجاوز, رغم هذا, نحو38 في المائة من اجمالي صادرات مصر السلعية, مقابل80 في المائة للمكسيك و87 في المائة لكوريا الجنوبية, و92 في المائة لاسرائيل في عام.1997 ورغم ان صادرات مصر من الملابس الجاهزة قد مثلت المكون الأهم لصادرات مصر من السلع المصنعة في العام المذكور وبنسبة زادت علي26 في المائة, فانها لم تتعد مقارنة بالصادرات المثيلة نحو1.2 في المائة لهونج كونج, و3.7 في المائة لتركيا! وبعد أن أمسكت أمانة السياسات بصناعة القرار الاقتصادي, وعملت علي إعادة بناء النظام الاقتصادي وفق أيديولوجية السوق الحرة سيئة السمعة, بدت الفرصة مواتية لكشف إخفاقات التنمية خلال ربع قرن من حكم الرئيس السابق, وهو ما تجلي في خطاب محافظينا الجدد من رعاة وحلفاء ومنظري الابن الوريث! وكما سجلت في مقال أداء الاقتصاد المصري, المنشور بجريدة الأهرام في8 أكتوبر2006 فان تقريرا هاما صدر عن وزارة التجارة والصناعة أبرز تدني أهم مؤشرات أداء الاقتصاد المصري, بالمقارنة مع أداء اقتصادات اثنتي عشرة دولة اختارها واضعو التقرير وفق معيارين محددين. أولهما, أن مستويات دخلها مقاربة لنظيرها في مصر, وثانيهما, أنها تمثل منافسا للاقتصاد المصري, إقليميا أو عالميا, خلال الفترة بين عامي2000 .2004 ونقرأ في التقرير: إن متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر لم يتعد3.9 في المائة في المتوسط سنويا, وشغلت بذلك المركز العاشر بين مجموعة المقارنة! ويسجل التقرير أن معدل النمو الاقتصادي المصري قد تراجع باستمرار في فترة المقارنة. وأما متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فقد كان الأدني في مصر مقارنة بجميع دول المقارنة, حيث شغلت مصر المركز الحادي عشر! ويسلم التقرير بأن انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل في مصر لا يمكن إرجاعه الي مجرد الزيادة السكانية, لأن متوسط نصيب الفرد من الدخل في تركيا مثلا قد بلغ ما يزيد عن ضعف مثيله في مصر رغم تقارب عدد سكان البلدين. والواقع أن متوسط معدل نمو الاستثمار المحلي الإجمالي, الذي يبرزه التقرير وبحق باعتباره المحرك الأساسي لأي نمو اقتصادي, فقد كان سلبيا في مصر, التي شغلت المركز الأخير خلال الفترة المذكورة! ورغم تحول هذا المعدل ليصبح ايجابيا في عام2004, فإنه لم يتعد2.9 في المائة, وهو ما بقي أدني وبفارق كبير من ذات المعدل في دول المقارنة, حيث بلغ12.3 في المائة في تركيا و9.5 في المائة في إندونيسيا. وأما متوسط نسبة الاستثمار المحلي الإجمالي في مصر فإنه لم يتجاوز17.9 في المائة, وكان الأدني مقارنة بجميع دول المقارنة لتشغل مصر المركز الأخير دون شريك! وارتبط هذا بتدني معدل الادخار المحلي الإجمالي في مصر, التي شغلت المركز العاشر بين دول المقارنة, بمعدل ادخار لم يتجاوز14.1 في المائة, مقابل43.7 في المائة في ماليزيا, و28.3 في المائة في إندونيسيا! وقد عانت مصر من تدني معدل الاستثمار المحلي فيها, ورغم هذا يسجل التقرير فجوة إدخار انعكست في ارتفاع عبء الدين الخارجي, الذي زاد رغم ما انفردت به مصر من إسقاط وإعادة جدولة المديونية الخارجية. وكان الأهم, كما يبين التقرير, ارتفاع الدين العام المحلي من70.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام1999/1998 الي101 في المائة في عام2005/2004 وفقا للبنك المركزي المصري. ولا تخفي التكاليف السلبية المنطقية لارتفاع الدين العام المحلي, أقصد ارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة وتزايد عجز الدولة عن الإنفاق علي التعليم العام والخدمات الصحية ودعم الفقراء والضمان الاجتماعي, وترحيل معظم عبء سداد هذا الدين المتزايد الي الأجيال القادمة! وإذا كان التحكم في معدل التضخم من الآثار الايجابية لتطبيق برنامج الإصلاح في مصر في بداية التسعينيات, فقد عاود الإنفلات وقفز مجددا ليبلغ نحو13 في المائة في عام2004! وأما معدل البطالة فقد زاد عن مستواه في ثمان من الدول موضع المقارنة, وبلغ في مصر وفقا لمنظمة العمل الدولية حوالي9.9 في المائة, مقابل حوالي3 في المائة في المكسيك, و3.4 في المائة في ماليزيا. والي جانب رفع شعار وول ستريتGreedisGreat أي الجشع عظيم! وهو ما يفضحه كل هذا الفساد المنظم الذي تكشف وينظره القضاء بعد الثورة, فان تشوه نمط النمو الاقتصادي تكشفه مؤشرات تطور توزيع الاستثمار القومي الإجمالي, كما سجلته سلسلة البيانات الأساسية لوزارة التنمية الاقتصادية عن الخطط الخمسية خلال الفترة1982/1981 2007/2006, حيث تبين تواضع وتراجع معدلات الاستثمار في التصنيع. فقد تراجعت وباستمرار نسبة الاستخدامات الاستثمارية المنفذة في الصناعة والتعدين( عدا البترول) من23.6 في المائة في الخطة الأولي إلي21.9 في المائة في الخطة الثانية, إلي14.8 في المائة في الخطة الثالثة, وإلي10.7 في المائة في الخطة الرابعة, ثم الي12.3 في المائة في الخطة الخامسة. ووصل الاستثمار في العقارات الي11.7 في المائة مقابل10.7 في المائة للاستثمار الصناعي خلال الخطة الرابعة! وقد سجلت في مقال في مواجهة تحدي تصنيع مصر, المنشور بجريدة الأهرام في10 أغسطس2008 أقول: لعل في هذه المؤشرات ما يبين ضعف دور رواد الصناعة مقارنة بغلبة لوبي العقارات, والمرتبطين به من منتجي حديد التسليح والأسمنت والمضاربين علي أراضي البناء السكني, خاصة الفاخر, في مجال صنع السياسة الاقتصادية والتشريع الاقتصادي! كما تكشف مؤشرات وزارة التنمية الاقتصادية عدم كفاءة تخصيص الموارد, كما بينت في مقال مواجهة تحدي الأمن الغذائي, المنشور بجريدة الأهرام في20 أبريل2008, حيث إن نصيب الزراعة من إجمالي الاستخدامات الاستثمارية المنفذة لم يتعد8.8 في المائة, بينما بلغ نصيب الإسكان والملكية العقارية9.8 في المائة خلال25 عاما! وتبين دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة أثر فلسفة الاقتصاد الحر علي عدم عدالة توزيع الدخل; إذ توضح أن حالة الأمن الغذائي وإن تحسنت من حيث توافر الأغذية, فإنها قد تدهورت من حيث القدرة علي الحصول علي الغذاء, بسبب سياسات الاقتصاد الكلي وسياسات توزيع الدخل; التي لم تحافظ علي مصالح محدودي الدخل! وللحديث بقية. [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم