الآن يمكن الحديث بهدوء بعد اللغط الناشئ عن اختيار الدكتور أسامة الغزالى حرب وزيراً للثقافة, ثم العدول عن هذا الاختيار بعد ساعات. فى هذا اللغط جانب شخصى وآخر موضوعي. بدا الجانب الشخصى هو الأكثر إثارة ت لا سيما ونحن نعيش أزهى عصور النميمة السياسية. فهذا عصر يبدو فيه رفقاء الثورة أشداء بينهم رحماء على إسرائيل ومنتهكى الحرمات والحريات. أما الجانب الموضوعي- الأكثر أهمية- فيتعلق بدلالات وتقييم ما حدث. نحن هنا أمام قضية عامة تستدعى الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى أن مفهوم المنصب الوزارى فى العقل الجماعى المصرى يختلف عن المفهوم السائد فى الدول المتقدمة. فنحن فى مصر نعتقد أن وزارة الثقافة لا ينهض بها إلا وزير شاعر أو فنان أو مبدع. وهذا ما قاله البعض صراحة فى مبرر الاعتراض على اختيار أسامة الغزالى حرب. هؤلاء لا يعرفون مثلاً أن أبرز وزراء ثقافة فرنسا فى العقود الماضية هو جاك لانج وهو أستاذ فى القانون ودرس العلوم السياسية أيضاً. وأكبر الإنجازات الثقافية فى فرنسا تحققت فى عهده. بل ان بلداً مثل لبنان كان أنجح وزراء داخليته فى السنوات الأخيرة هو الوزير زياد بارود وهو فى الأصل باحث حقوقى عُرف قبل تقلده الوزارة بنشاطه الكبير فى مؤتمرات ومنتديات حقوق الانسان ، وكانت فترة وزارته من أهدأ الفترات أمنياً فى لبنان مقارنة بما قبل فترته وما بعدها. لم يكن مفهوماً إذن وجه الاعتراض على شخص أسامة الغزالى حرب وهو رجل صاحب رؤية وكتاباته فى العلوم السياسية تخصصه المعروف يغلب عليها المنظور الفكرى والبعد الثقافي، وهو معروف فى الدوائر الثقافية العربية ومحل تقدير من المثقفين العرب. وقد استمعت اليه متحدثاً فى منتديات ثقافية فكان ملحوظاً تركيزه على الأولويات والتقاطه على الفور فى أية مشكلة سياسية أو اجتماعية جذورها البعيدة الثقافية. تهذا التقدير الواجب للدكتور أسامة الغزالى حرب لا ينقص من قيمة وزير الثقافة الحالى تدمث الخلق دكتور صابر عرب الذى حظى فى نهاية المطاف بتوافق الجماعة الثقافية فى مصر. العجيب فى الامر أننا نسينا ان احد انجح وزراء الثقافة بعد ثروت عكاشة وهو فاروق حسنى قد استقبل فى بدايته بهجوم شرس ثم ما لبث أن احتفى به نفس الذين هاجموه. تالملاحظة الثانية أن ما أثير حول عضوية د. أسامة الغزالى حرب فى لجنة السياسات أو الحزب الوطنى فى إطار وصفه بالفلول لا يخلو من تحامل وافتئات. فقد استقال الرجل من الحزب الوطنى وأمانة السياسات وبدأ السعى لإنشاء الجبهة الديمقراطية قبل ثورة يناير بسنوات. وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على ثورة يناير فما زال مصطلح الفلول يحتاج إلى ضبط وتدقيق. ولعلّ هذه مناسبة لرفع الالتباس عن هذا المصطلح. وعلى الرغم من أننى لم أنتم يوماً الى حزب او لجنة أو جماعة أو تيار لنفور مبدأى من العمل السياسى وللتحصن باستقلاليتى فإن الإنصاف يدفعنى للقول بأن هناك أشخاصاً فى غاية الوطنية توالنزاهة والكفاءة كانوا يوماً من المنتمين الى الحزب الوطنى او لجنة السياسات، وإن كان عدد هؤلاء محدوداً لدرجة أننا نكاد نعرفهم بالاسم. ليس من العدل ولا من المنطق إذن تعميم الأحكام والتقييمات فى هذا الموضوع.ت وعلى أى حال فنحن ننسى أن هناك من كان يقدم نفسه قبل ثورة يناير بوصفه من المعارضة الوطنية بينما صلاته فى الخفاء كانت وطيدة مع النظام السابق وأجهزته الأمنية ، وكانت نزاهة هؤلاء محل شك كبير. ولو فتح الى مداه ملف التمويل الأجنبى الذى أثارته بشجاعة الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا لتطايرت كرامات ولسقطت وجوه تنكرية كثيرة فى هذا البلد. الخلاصة أن لدينا اليوم مشكلة مع الفلول بقدر مشكلتنا مع تأدعياء الثورة. بالطبع من حق كل شخص أن يغيّر أفكاره بل ومن حقه أن يعارض الثورة ولكن ليس من حق أحد أن يستخدم التصنيف السياسى كوسيلة للنيل من الآخرين متى كان لم يتورط فى فساد أو يروج لاستبداد.ت الملاحظة الثالثة- قوة البيروقراطية المصرية فى الزود عن مصالحها الموروثة والمكتسبة فى مؤسسات الدولة. فالمؤسسة البيروقراطية تمتلك قدرة كبيرة فى حشد واستنفار الانتماء القبلى ( وليس المهني) لأصحابها للحيلولة دون وصول الغرباء إليها. ويبدو أن لدينا ثقافة بيروقراطية تعتبر أن منصب الوزير يجب أن يكون حكرا على النسل البيروقراطى داخل المؤسسة ذاتها. أما الآتون من مؤسسات أو فضاءات معرفية أخرى فهؤلاء يعتبرون من الغرباء غير المرحب بهم. أعتقد أننا رأينا شيئاً من هذا فى حالة تأسامة الغزالى تحرب وربما فى حالات أخري.ت نحن فى الواقع أمام ظاهرة مصرية خالصة تحتاج إلى تفسير من علماء الإدارة. فلا يمكن أن يعترض أساتذة الجامعات فى ألمانيا مثلاً لأن وزير التعليم العالى لم يأت من صفوف الأساتذة، أو يعترض قضاة فرنسا لأن وزير العدل لم يكن قاضياً ، أو يعترض فنانو اليابان لان وزير الثقافة لم يكن عازف تآلة تشامسين شهيراً. نفهم بالطبع أن الوزارة فى الدول المتقدمة هى زمؤسسةس بأكثر مما هى زشخص وزيرس. أما فى مصر فالوزارة هى شخص الوزير بأكثر مما هى المؤسسة. وتلك قصة يطول شرحها. تيبقى السؤال هل نحن نفهم حقيقة مسؤوليات ومؤهلات المنصب الوزارى بأفضل مما تفهمه الدول المتقدمة التى ذكرتها فى بداية المقال ؟ السؤال مطروح ولا تبدو الإجابة صعبة. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم