انتفض المثقفون ضد ترشيح الدكتور أسامة الغزالى حرب لوزارة الثقافة، قال المثقفون إن الدكتور الغزالى ليست له خبرة بتفاصيل العمل فى وزارة الثقافة، وإن إلمامه بمشكلات قطاعات الوزارة، مثل هيئة الكتاب ودار الكتب وقصور الثقافة والبيت الفنى للمسرح، سيستغرق منه عدة شهور لكل منها، بما يجعله عملياً غير قادر على اتخاذ أى قرار جاد قبل مرور وقت طويل. كلام وجيه ومنطقى وإن كان فيه كثير من المبالغة، ولكن هل لاحظ المثقفون أن حجتهم هذه تقوض رأياً ردده أغلبهم لسنوات حول ضرورة تولى المدنيين لوزارات الدفاع والداخلية، وأنه لا يلزم لوزير الصحة أن يكون طبيباً، ولا لوزير الخارجية أن يكون دبلوماسياً، وكأن فهم تفاصيل عمل الدفاع الجوى والمدرعات والطيران والأمن المركزى ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والأمراض المتوطنة والمعاهدات الدولية أمراً هيناً بالقياس لمشكلات وزارة الثقافة العويصة. هل لاحظ المثقفون أى تناقض فى آرائهم أو أى تعارض بين الحجج التى يستخدمونها للدفاع عنها؟ هل لاحظوا ما فى هذا التناقض من نزعة للتمركز حول الذات تجعل من حاجاتهم ومشكلاتهم الأكثر أهمية وخصوصية حتى إنها تحتاج لمعالجة استثنائية تختلف حتى عما يبشرون به لمعالجة باقى مشكلات المجتمع؟ هل لاحظوا ما فى هذا المنطق من نقص فى الاستقامة والاتساق النظرى والعملى والأخلاقى، أم أن الاستقامة ليست من بين الفضائل التى على المثقف أن يحرص عليها؟ أسامة الغزالى سياسى ومثقف، يؤمن بحرية التعبير والإبداع وبقيم الحداثة -وما بعدها أيضاً- والتعددية والانفتاح على العالم، وهى نفس القيم السائدة بين المثقفين، وكتاباته ومواقفه تدل على أنه يؤمن بالدور المركزى للثقافة فى نهضة الأمة، وكلها صفات ترشحه لكى يصبح وزيراً جيداً للثقافة. لكن الدكتور الغزالى يأتى من خارج صفوف مثقفى وزارة الثقافة، وهذه هى المشكلة، فالمثقفون لا يريدون وزيراً يهتم بالثقافة وإنما يهتم بالمثقفين، أو أنهم لا يريدون وزيراً وإنما نقيباً يمثلهم ويحل مشكلاتهم، وهى المهام التى لا يستطيع القيام بها قادم من خارج الصفوف. النقيب وليس الوزير هو ما يبحث عنه العاملون فى وزارات مصر المختلفة، فمنذ الثورة كانت آراء واحتجاجات العاملين فى وزارات مختلفة عاملاً حاسماً فى استبعاد مرشحين للوزارة وفى استقرار الاختيار على بعضهم الآخر، حدث هذا فى وزارات الآثار والطيران والكهرباء والصحة والزراعة، وغيرها الكثير. فالأطباء المعترضون على مرشح وزارة الصحة لا يشككون فى كفاءة المرشح لتولى الوزارة، وإنما يشككون فى أهليته لتمثيل الأطباء لدى الدولة، مثلهم فى ذلك مثل الطيارين والأثريين والبتروليين والزراعيين؛ فالمثقفون لا يريدون وزيراً للثقافة وإنما يريدون وزيراً للمثقفين، والأطباء لا يريدون وزيراً للصحة والطب وإنما وزيراً للأطباء، والطيارون لا يريدون وزيراً للطيران وإنما وزيراً للطيارين، وهكذا. الأمر إذن ليس مقصوراً على المثقفين، وإنما هى ظاهرة أوسع نطاقاً فى بلد تعرضت فيه وزارات الدولة ومؤسساتها للخصخصة لصالح العاملين فيها. أما مظاهر هذه الخصخصة فمتنوعة جداً، تبدأ ببدعة أن الأولوية فى التعيين تكون لأبناء العاملين، وأن من حق العامل المحال إلى التقاعد تعيين ابنه أو بنته فى مكانه الذى خلا، مروراً بتفاوت الدخول بين العاملين فى المؤسسات والوزارات بناء على حظ وزاراتهم من الموارد؛ فالعاملون بالكهرباء والبترول والمجتمعات العمرانية ليسوا مثل العاملين فى الزراعة والتنمية المحلية، انتهاءً بتدخل العاملين فى اختيار الوزير المسئول عنهم، لا الذى يكونون هم مسئولين أمامه. إنه نوع من الخصخصة أكثر خطورة وضرراً من بيع شركات القطاع العام، فبيع الشركات التابعة للدولة حتى لو كانت رابحة، وحتى لو انطوى البيع على فساد كبير هو أمر يحدث مرة واحدة، أما خصخصة الوزارات والمؤسسات فهو أمر تضطر الأمة للتعايش معه وتحمّل تكلفته لأجيال حتى يتم إصلاح العوج. أعود إلى المثقفين ووزارة الثقافة، فقد نجح المثقفون فى إقصاء الغزالى حرب عن وزارتهم بعد أن عاد إلى «محلب» بعض رشده، وأدرك أن وزير المثقفين يجب أن يأتى من بينهم. حاول رئيس الوزراء المكلف ترشيح محمد صبحى وزيراً فهو ممثل وفنان، ولكن هذه المحاولة أيضاً خابت ليس لأن «صبحى» ليس بمثقف وفنان، وإنما لأنه ليس من المثقفين العاملين ببيروقراطية الثقافة. استسلم المهندس محلب لضغوط بيروقراطية الثقافة لكن همومه لم تنته، فما إن ترشح اسم من صفوف بيروقراطية الثقافة، حتى انتفض ضده قسم من البيروقراطية نفسها؛ فمثقفو هيئة الكتاب لا يريدون وزيراً من دار الوثائق، ومثقفو المسرح لا يريدون وزيراً من السينما، ومثقفو قطاع الأوبرا لا يريدون وزيراً من الثقافة الجماهيرية، فالبيروقراطية غير موحدة، لكنها مفتتة تبعاً للهيئات والدواوين والقطاعات، وكل منها يريد الوزير النقيب الذى يمثله هو بالذات، وهو نفس النموذج المتكرر الذى تجده فى وزارات عدة. غير أن مشكلة المثقفين أكبر من ذلك بكثير، فهم بالإضافة إلى انقسامهم بين هيئات وقطاعات عدة، فإنهم ينقسمون أيضاً إلى تيارات فكرية وأيديولوجية، فمنهم الليبرالى والناصرى والماركسى والحداثى والمابعدحداثى والوطنى والكوزموبوليتانى، وهذا أمر طبيعى فى أوساط فئة صنعتها الأفكار. ليس لدىّ مشكلة مع المثقفين، فهم روح الوطن والمدافعون عن هويته وحيويته بكل فئاتهم، فقط أردت أن أتخذ من موضوع الوزارة مناسبة للتطرق إلى مشكلات عويصة تواجه هذا البلد، سواء فى جهازه الإدارى الذى اختطفه العاملون فيه فى غفلة من الأمة، فبات عاجزاً عن إدارة التنمية وتحقيق التقدم، أو فى مثقفيه الذين أتاح التشرذم والشللية والأنانية المتفشية بينهم لأعداء الثقافة والتقدم والقيم النبيلة الفرصة لاحتلال عقل الأمة على مدار عقود مضت.