«1» الفكرة اللحوحة في زراعة شجرة بونسيانا في حديقة المنزل كانت فكرتي، والالحاح علي زراعة أخري في المقبرة كانت فكرتك. استطالت الشجرتان، فغطت الأولي الحديقة وبيتا من طابقين وجزءا من الشارع والبيوت المجاورة، وظللت الثانية مساحة قيراط بالتمام والكمال، وسألتني وأنت ترش ما تبقي من ماء علي عود البونسيانا الصغير: «في أي الدارين نمضي الجزء الأكبر؟» فنهرتك لتكف عن التفلسف وتنتهي لترحمنا من وهج الشمس التي أتقيها بجريدة، فتمتمت وأنت تشير الي الشمس: «ما يؤذي الحي يؤذي الميت». ظل كثيف يفصل بيني وبين قيظ مميت خارج محيط شجرة تميل علي المقبرة كخيمة، بأوراق كثيفة الخضرة، ناعمة كأنها ريش نعام، هدوء وعزلة ونسيم بارد يتخللني، وأرض تمتليء بزهور حمراء، وأوراق رفيعة جافة، بدت معها المقابر المبنية منذ ثلاث سنوات كأنها خالدة منذ زمن بعيد. «حوش» ومقبرتان، واحدة للرجال وأخري للحريم، وظهيرة وبونسيانا أويت الي ظلها. لم انتبه الي فرس النبي، ولا «حرامي الحلة»، ولا سحلية رفعت جفنها نحوي بلا اكتراث. «حوش» ومقبرتان ومصطبة، وفتحتان عليهما «مجاديل» وأقفال حديدية، وصمت وأوراق جافة وزهور حمراء كبيرة لم تكن قد سقطت أمس، أزحتها وجلست في مواجهتك وتمتمت: «حدودي كثيفة، ها أنا الآن اعترف، وحدودك شفافة». كأنك كنت تري المستقبل، وتعلم أنني سأجلس هنا والآن وحدي في ظل البونسيانا، وتري ما يمر بخاطري لحظة بلحظة، وتهز رأسك بالداخل وتبتسم. وحدودي كثيفة، أدرك الآن، وحدودك شفافة، تغرس البونسيانا قبل ثلاث سنوات بدلا من الصبار بين مقبرتي الرجال والحريم، وتقول: أنت تحب هذه الشجرة، وتقترح وانت تسقيها بالماء وضع لافتة رخامية محفور عليها اسمي، وتحته كلمة «وأسرته»، وترص الطوب المتبقي علي هيئة مصطبة في مواجهة المقبرتين، ثم تطليه بالاسمنت، وتقول في إعجاب: «كده.. لا يمضي الزائر وقته واقفا» وترش ما تبقي من ماء علي جذر البونسيانا وتضيف: «ولاتعذبه الشمس.. ولا ايه رأيك؟». تململت من القيظ، وحثثتك علي الانتهاء قبل أن تقتلنا الشمس، فقلت وأنت تنفض يديك في اعجاب: «بكرة الشجرة اللي انت مستهتر بها تظلل علي قيراط كامل «زممت شفتي ولم أرد، فابتسمت: «ان محصلش.. ابقي قول محمد الشحات كداب. وحدي في الظهيرة علي مصطبة متربة، تغطيها أوراق وزهور بونسيانا حمراء حديثة السقوط، أحدق بعيني في القفل المغلق علي مقبرة الرجال، أفكر فيما اذا كان قد دار بخلدك أن تكون أول من يدخل مقبرة بنيت لتكون لي ولأسرتي فقط، فأجد أنك انتظرت ثلاث سنوات حتي تظلل البونسيانا المصطبة وظهر المقبرتين، ثم قررت أن تجيء، ولاح لي أنك تقول: «يحشر المرء مع من يحب» وتبتسم وأنت تنقر كتفي وتهمس: «خدني جنبك» كما تفعل في جامع البحر وفي الدرس وفي الحضرة، فيتسع وحده المكان. لم أعرف أنك تعشق البونسيانا الي هذا الحد إلا بعد أن خرج جمعه ابو الجود من مقبرة جدك أبو الفتوح وهو يضرب كفا بكف ويجفف يديه المبللتين في ذيل جلبابه ويتساءل اذا ما كان الذين فتحوها عميانا: »حرام عليكم كده»، ولما لم نفهم سبب غضبه، أخذ الكشاف وسلط الضوء باتجاه جوف المقبرة، فوجدناها مملوءة بالمياه الجوفية، فتذكرت انسحابك الغاضب من أقصر جلسة صلح، حين عيرك اخوة عفاف بأنهم زوجوك وأنت غريب. آلمتك العبارة، فأقسمت وانت تغادر ألا تدفن في مقابر أولاد عبد الشفيع حجاب اخوة عفاف، وأشرت لخالك «ولا مع خالي عبد العزيز الذي بلع الاهانة» فقال بعجرفة «هنرميك فيها غصب عنك»، فالتفت وقلت بنبرة أكثر تهديدا: علي الطلاق أسيب لك فيها شوية ميه، وشوف هتعمل ايه؟ لم تعد الي الجلسة، وفي آخر الليل وانت تفتح الباب وجدت أولاد عبد الشفيع حجاب ورئيس الجلسة في انتظارك، وعفاف بالغرفة الداخلية. ارتبك خالك عبد العزيز وقال إنهم فتحوا المقبرة بعد المغرب مباشرة للتهوية، لكنهم لم ينظروا بداخلها، وبدأ الجميع في ورطة، فيما كنت قادما علي مشارف المدافن، فلم يكن امامي سوي فتح مقبرتي، فهل كنت أعرفك حقا ام حالت حدودي الكثيفة دون ذلك؟ لحظة قدومك محمولا في مشهد مهيب، واكتشاف المياه الجوفية في مقابر اخوالك، واتجاه المشيعين الي مقبرتي، انتابني الرعب، وعاودني هاجس المصير المشترك، تلك الفكرة التي باتت تلح بقوة، بخصوص طفلين، ولدا معا، كأنهما توءم، في نفس الحظة، فلم يمكنا هانم فودة القابلة من غسل يديها وهي تخرجهما من امرأتين راقدتين تصرخان في وقت واحد، أمي وعمتي. لم أتخلص تماما من الفكرة، فأجريت سرا نفس الفحوص التي أجريتها عندما اصابك سرطان البنكرياس، فجاءت عادية. وحين أخذ «جمعه» المفتاح من يدي وسبقني. كان مبتهجا وهو يسوي بيديه الطويلتين تراب المقبرة، جاثيا في الداخل بانتظارك في مساحة تكفي لاثنين، وحين سألني وأنا أوجه الضوء ناحيته: «ايه رأيك.. مش كده أحسن؟ «اعتصر الألم صدري بشراسة، وأحسست من نظراته أنه يمهدها لي، وبدأ فجأة أن كل ما يحدث يؤكد أنه لن يكون هناك فارق في الخروج، تماما كما لم يكن هناك فارق في المجيء، فاستحال الألم الي سكاكين تمزق صدري وكتفي الأيسر، وتسرب العرق. أمسكت صدري، لكن الصرخة التي شقت السكون غلبتني وخرجت فيما كانت أيدي الرجال تحملك الي حيث يقف بالداخل جمعه اللحاد، فجذبني الواقفون الي الخلف، واخرجوني من المقابر. «2» للظل الكثيف طعم خاص، برودة محملة بنسيم تخلل مسامي مرة واحدة ، عزلتني تماما عن هجير قاتل خارج محيط الشجرة المائلة علي مقبرتين وحوش كخيمة بأوراق كثيفة الخضرة، ناعمة كأنها ريش نعام، أخطو، كأنما في غابة استوائية، علي ارض امتلأت بزهور كبيرة حمراء، وأوراق رفيعة جافة بدت معها المقبرة المبنية حديثا كأنها بنيت منذ زمن سحيق. ارتميت علي المصطبة، وخلعت حذائي وفكرت فيما يربط بينك وبين الدكتور بنداري، فأنا لم أمت كما توقعت بالأمس، وبجلوسي الآن في ظل بونسيانا متوهجة بالزهور الحمراء، علي مقربة من كلب أوي إلي الظل وغط في نوم عميق، وسحلية تلهث بلسانها من الصهد وتلوذ بالظل دون أن تكترث لوجودي، و«حرامي، حلة» يروح ويجيء علي جدران المقبرة، و«فرس نبي» تدور حول حافة الباب ذي القفل ولاتجفل، أكون . حسابيا، قد أمضيت ليلة أمس في العناية المركزة، منها سبع ساعات قضاها الدكتور بنداري حافيا بجواري لا أدري عنها شيئا مطلقا، من العاشرة حتي الرابعة فجرا، حين كلمني وغفوت مرة أخري حتي السابعة صباحا. أما طبيا، فلو كان التشخيص المبدئي كما رأيته مكتوبا علي تذكرة العناية، »جلطة في القلب... في فرعي الشريان التاجي العلوي والسفلي« ، لاستغرق الأمر أياما في العناية حتي تزول الجلطة نهائيا، ويسترد القلب عافيته، ولما كنت أجلس أمامك الآن بعد مسيرة بلغت ستة كيلو مترات، وماقاله زملائي يعد متناقضا، وشعرت معه أنني في حاجة إلي الذهاب إلي الدكتور بنداري، والاستفسار منه عن سبع ساعات لا أعرف عنها شيئا مطلقا، لكن الألم الذي بلغ ذروته ، وأنا علي باب المقبرة كان يزول من صدري تدريجيا، كنت أقاومه، تمسكا بالحياة، واستبعادا لفكرة المصير الواحد والمشترك، لكنني بعد فترة وجيزة من ارتجاف جسدي، شعرت بقلبي يتوقف، ولا هواء يصل إلي رئتي ولايخرج منها، وفقدت الرؤية والاحساس والقدرة علي الحركة، وتلاشت حاسة السمع كآخر شيء، مع الزوال الأخير للألم ، ولم يعد سوي سلام وهدوء وصمت، كأنني أمر في نفق مظلم، بسرعة فائقة، ولا أثر لكل ماقاله في الرابعة فجر اليوم الدكتور بنداري طبيب العناية المركزة الذي أحيل الي التقاعد منذ عشرين عاما، بأن قلبي كان قد توقف، وأنني كنت »خلاص... انتهيت«، وأن جهاز صدمات القلب اشتغل ثلاث مرات بعنف ويأس،والأطباء والممرضون يبكون، في محاولة يائسة لاستعادتي مرة أخري، أعرف مايقولونه، ورأيته في أناس آخرين، لكنني لم أشعر به نهائيا، كنت أظنهم يمزحون وأنا أفتح عيني في السابعة صباحا، بعد الإغفاءة الثانية، فلا أجد أثرا للدكتور بنداري، الذي أتذكره كخيال، وأجد زملائي أطباء العناية مجتمعين حول سريري، يقولون في نفس واحد: « أهلا بالرجل العائد من الموت» وحين هممت بجسدي، أصروا علي البقاء راقدا، قالوا: «علي فين؟» قلت: « أروح!» قالوا في نفس واحد: « أنت بتستعبط؟ وأخبروني بما حدث، فقلت: « إذن أتمشي في الطرقة«، فوافقوا، لكن قدماي قادتني إلي باب العناية، فنزلت من الطابق الرابع إلي الأرضي، ثم إلي بوابة المستشفي، وهرع » زيزو« إلي البوابة وفتحها علي آخرها ورفع يديه بالتحية، كأنني أخرج بالسيارة، ثم مالبث أن لحق بي وسألني في ربية إن كنت أريد أي مساعدة، فشكرته، كانت السابعة هي الموعد الرسمي لاستيقاظي، وكنت أسير بشكل عادي، إلا أنه في اتجاه مخالف لما أسير فيه كل يوم، كأنني سأتعثر، أو ستخذلني قدماي، يساروني شك في التشخيص الذي قرأته علي دوسية العناية المركزة، ولابد أن الدكتور بنداري حدق فيه، وسأل باستنكار: إيه اللي انتو كاتبينه ده؟ ثم ترك الدوسيه وخرج قائلا: يالله... أهو تشخيص وخلاص! وحين لحق به نائب العناية ، وسأله عن التشخيص الصحيح، أحجم عن الكلام ، وأشار إلي السماء. بعد أكثر من ساعة من السير الوئيد داخل المدينة، وقفت أمام سرادق يقام ، بالقرب من بيت الدكتور بنداري الذي أمضي حياته طبيبا شهيرا للقلب في المدينة، وأنشأ العناية المركزة، قبل خروجه علي المعاش منذ عشرين عاما، وكان نائب العناية الذي لحق به عند الباب الخارجي يمسك القلم ليسأله عن التشخيص الصحيح، لكنه تردد في كتابة ما سمعه، واكتفي بوضع علامة استفهام بعد التشخيص المكتوب، ليصبح«اشتباه جلطة في القلب»، وحين سأله زميله: «قال لك أيه؟» لف أصابعه حول اذنه، وقال: «الدكتور بنداري خرف... بيقول: «شحتناه من ربنا عشان البنتين، وأشار إلي السماء». أنا شحت لك البنتين دول من ربنا! ليس ثمة مايربط بينك وبين الدكتور بنداري، فبينكما بون شاسع، وربما لاتعرفان بعضكما البعض، وربما لم تره في حياتك، ومنذ خروجي من بوابة المستشفي ، كان تفكيري منحصرا في سؤاله عن حقيقة ماحدث خلال سبع ساعات أمضيتها في العناية المركزة ولا أدري عنها شيئا، لكنني حين هممت بصعود درجتي السلم في مدخل البيت،سألني رجل طاعن في السن إلي أين أنا ذاهب، فقلت: إلي الدكتور بنداري، فقال: كل من عليها فان« الجمتني الدهشة، ومضيت وليس بذهني خلال ساعة ونصف الساعة من المسير المتواصل سوي معرفة مايربط بينكما، حتي إذا ماجلست في ظل البونسيانا، ورنوت إلي القفل المغلق، لاح لي أنه بحسب ماذكره نائب العناية، يكون قد استعادني قبل أن أوغل في شطحي في العالم الآخر، وهو تشخيص لايكتب علي الدوسيه، كما لايدخل العقل ماقلته عن ابنتي سالي وسوسن لم أصل إلي كنه النوبات التي تجيء لهما فجأة، وتروح فجأة، هكذا دون علاج، ولم أحدد رغم تكرارها في الفترة الأخيرة، ماالذي يجعلها تطول أو تقصر، أو أتوقع مواعيد قدومها، رغم إجراء التحاليل التي استبعدت الإصابة المادية للقلب، حتي باغتني الدكتور بنداري: «أمهم متوفية من إمتى ؟ قلت: هى ليست : فقاطعنى ومديدة بروشتة فيها شريط أندرال » بجنيه واحد، وظل يرمقهما بعينيه حتي خرجتا، وهو يمصمص شفتيه، تماما كما فعلت وأنت ترجوني ألا أبوح بهذا السر لأحد، أومأت برأسي ، فقلت: أنا شحت لك البنتين دول من ربنا! الكلام الذي رميته كان غريبا وغامضا، قلته وقمت، كأنك كنت تعرف أنني لن أصدقك، فبدوت في هذه اللحظة كمجنون يخشي افتضاح أمره، وأنا أحدق في عينيك باستغراب، وأنت تبحث عن الباب لتخرج، وأنا أحاول أن أستبقيك معي قليلا، فتتعلل بأنك تأخرت عن صاحبك الواقف علي القنطرة، طلبت منك أن تناديه، فقلت: «مينفعش... لسه ورايا مشوار تاني». وحدي وسط هذا السكون، لاصوت إلا وشيش الصهد، وطنين ذبابات خضراء، ومخ يوشك علي التوقف، ومقولتك الحاضرة «عندما تموت، تفقد جسدك فقط، هذا كل ماهنالك، لاشيء آخر يمكن فقدانه» فأقوم كمجنون إلي أكمة البوص، أنتزع بوصة طويلة، وأقطعها علي مقاس ذراعي المفرودتين، والبالغ بالتقريب مترين إلا ربعا، وبطول نصف قصبة، أقيس الظل، يراودني أمل أخير في نسبية كلامك، فإذا بظل البونسيانا أربع عشرة قصبة إلا ثمنا، لا أكثر ولا أقل، وإذا بالزمن الفاصل بين زراعتها وجلوسي علي المصطبة في ظلها ثلاث سنوات قمرية، لتمارس دروشتك علي حتي وأنت بالداخل، وتثبت لي أن حدودي كثيفة وحدودك شفافة.