مازال المنزل القابع فى 5 شارع أحمد حشمت بالزمالك الذى تشغله الجمعية الإفريقية حاليا «الرابطة الإفريقية سابقا» يقف شاهد عيان على مسيرة طويلة امتدت على مدى أكثر من 60 عاما من التعاون المشترك بين مصر وشقيقاتها الإفريقيات. وتكاد كل طوبة فى هذا المبنى العريق تروى تاريخا مضمخا بالأمنيات العذبة والآمال العراض، والعمل المشترك والتضحيات الكبيرة من أجل مستقبل افضل لدول القارة الإفريقية، التى أخذت مصر على عاتقها منذ قيام ثورة يوليو وتحررها من نير الاستعمار أن تعمل جاهدة من أجل المساهمة فى تحرير باقى أقطار القارة ومجاهدة العنصرية فى ربوعها ، وقدمت فى سبيل ذلك الغالى والنفيس من خيرة ابنائها الذين دفعتهم للإمساك بزمام علاقاتها الإفريقية ، ولم تبخل بمال أومساعدة، وفتحت القاهرة أحضانها لكل حركات التحرر بدول القارة ، وتحول مقر الرابطة إلى مرتكز ومنطلق لكل ثوار إفريقيا وأحرارها . وتعود قصة هذا المنزل التى صارت مرادفة لقصة العمل المشترك مع دول القارة إلى عام 1948عندما تمت إعارة صاحبه محمد عبدالعزيز إسحاق أستاذ الأدب العربى فى جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) إلى جامعة غوردون سابقا (الخرطوم حاليا)، وهناك تعرف على طلبة من جنوب السودان أخبروه عن حال الجنوب السىء فى ظل الاستعمار البريطانى، وكيف جعل منه منطقة مغلقة يحظر على الشماليين والعرب المسلمين دخوله، ورتبوا له زيارة سرية للجنوب، تأثر بعدها كثيرا بقضيتهم، ثم تعرف لاحقا على طلاب من دول شرق إفريقيا، فزادت كراهيته للاستعمار البريطانى، وسياساته تجاه شعوب هذه الدول، ويقول الدكتور محمد نصر الدين رئيس الجمعية الإفريقية حاليا :لما انتهت إعارة إسحاق، وعاد إلى القاهرة وأسس صالونا ثقافيا فى بيته ليحكى عن تجربته وتعرفه على الطلبة الأفارقة وكفاح الشعوب الإفريقية من أجل التحرر، وكان يوسف السباعى أحد الضباط الأحرار ووزير الثقافة لاحقا ممن يترددون على هذا الصالون ، فلما قامت ثورة 23 يوليو، وأعلن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أن الدائرة الإفريقية هى الدائرة الثانية بعد العربية فى السياسة المصرية، قدم السباعى إسحاق لعبد الناصر، الذى كلفه بالتواصل مع الطلبة وحركات التحرر الإفريقية، ونقله إلى الخارجية للعمل كدبلوماسى. ويذكر الدكتور محمد نصر الدين كيف أصبح منزل الرجل مقرا للرابطة الإفريقية وملاذا لكل حركات التحرر فى أنحاء القارة جميعا التى بلغت 38 حركة، وكان أول من استقبلت فيلكس مومى زعيم اتحاد الشعب الكاميرونى فى فبراير عام 1957، ثم الأمين كاميتا ممثلا لمكتب السودان الفرنسى (تشاد حاليا)، وجون كيلى ممثل حركة المؤتمر الأوغندى، وأوجينجا أودينجا رئيس الإتحاد الوطنى الإفريقى (كانو) وهو والد رئيس وزراء كينيا الحالى رايلا أودينجا، والدكتورموتلاند زعيم حركة التحرير الوطنى لموزمبيق، وجوشوا نكومو زعيم اتحاد شعب زيمبابوى ، وكينيث كاوندا زعيم حزب الاتحاد الوطنى المستقل لزامبيا ورئيسها بعد الاستقلال، ونيلسون مانديلا زعيم حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى بجنوب إفريقيا ، وسام يوما رئيس منظمة شعوب جنوب غرب إفريقيا ورئيس ناميبيا بعد الاستقلال، وعلى محسن رئيس الحزب الوطنى لزنجبار، وعثمان صالح سبى ممثل جبهة تحرير اريتريا ، وباتريس لوممبا ممثل حركة استقلال الكونغو ، إضافة إلى حركات التحرر فى أنجولا وغينيا والرأس الأخضر وسوازيلاند وبتسوانا وغينيا بيساو وأنجولا والصومال وغيرها. وقد قدمت مصر الدعم المادى والمعنوى لهذه الحركات جميعا ولم تبخل ، قدمت لها السلاح والذخيرة والمال لدعم كفاحها ضد المستعمر، وأنشأت لها الإذاعات الموجهة باللغات واللهجات الإفريقية على شبكة صوت العرب ليصل صوتها لشعوبها، وأصدرت لممثليها جوازات سفر دبلوماسية واصطحبتهم ضمن وفودها لمقار الأممالمتحدة فى جنيف ونيويورك لعرض قضاياهم ضمن الوقت المحدد للوفد المصرى لإسماع العالم كله بقضاياهم. وأصدرت الرابطة مجلة دورية رأس تحريرها إسحاق وكتب فيها ممثلو حركات التحرر . وكان من أهم الشخصيات المصرية التى عملت فى الملف الإفريقى: يوسف السباعى ومحمد فائق وفتحى رضوان وحلمى مراد، ومحمد حسن الزيات وكمال صلاح الدين وعبدالمنعم الصاوى وبطرس غالى وحلمى شعراوى ومحمود محفوظ وغيرهم . ولعب فائق دورا كبيرا فى دعم حركات التحرر وتنفيذ سياسات مصر الإفريقية، ثم واصل غالى الجهود، وعندما أصبح وزيرا للدولة للشئون الخارجية زار عام 1977 الدول الإفريقية جميعا بغير استثناء بطائرة رئاسية، وأنشأ الصندوق المصرى للتعاون الفنى مع إفريقيا ، الذى أرسل حتى الآن أكثر من 7400 خبير مصرى لدول القارة فى جميع المجالات ، كما كون وقتها «لوبى» للضغط من أجل الإفراج عن مانديلا. وبعد رحيل عبدالناصرتغيرت الأمور بتغير وجهة مصر وسياساتها فى مرحلة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، وكانت الرابطة الإفريقية وسياسة مصر الإفريقية مصدر إزعاج للغرب، فطلب السادات عام 1972 أن تتحول الرابطة إلى جمعية، وتم إشهارها كجمعية أهلية تابعة للشئون الاجتماعية، بعد أن كانت تابعة للرئاسة والخارجية. واليوم تواصل الجمعية جهودها فى مجال دعم قدرات الطلبة الأفارقة بمصر، والتواصل مع الجاليات الافريقية، وبالطبع تحتاج إلى مزيد من الدعم للانطلاق نحو آفاق أوسع، كما هو الحال بالنسبة لمصر كلها ، لتعيد سيرتها الأولى، لكن بما يواكب روح العصر ومتطلباته. ومازال لدى مصر الكثير مما يمكن تقديمه فى هذا المضمار، ومازالت مجالات التعاون مفتوحة على مصراعيها مع دول القارة حتى بعد انقضاء زمن الكفاح المشترك المباشر ضد الاستعمار والعنصرية، وأكبر معضلة تواجه دول القارة اليوم هو خطر الإرهاب الذى يتخذ مسميات إسلامية، ويضرب غالبية دولها، ويضعف قدراتها ويهددها بالتفكك، ولاشك أن مصر لديه ماتقدمه فى مكافحة هذا الخطر الماثل بالفكر المستنير وبمؤسساتها كالأزهر وغيره، مع ضرورة التوصل إلى تفاهمات وصيغ للتعاون مع جميع دول القارة، وعلى رأسها دول حوض النيل، عبر معادلات يربح فيها الجميع .