يحدثنا التاريخ أن الطبقة الوسطى كانت دوما الوقود المحرك للوعى الوطني، إذ أفرزت نخبًا مثلت محركًا للثورات التى شهدتها مصر منذ ثورة عرابى فى القرن التاسع عشر، وحتى ثورة 30 يونيو 2013م، وباستثناء الزعيم الوطنى محمد فريد كان قادة هذه الثورات من نخب الطبقة الوسطي، التى قد لا تمتلك الثروة ولكنها تملك الرؤية الناضجة والفكر المستنير، وقبل هذا وبعده الحس الوطنى الصادق الذى يبحث عن مصلحة الوطن لا المصالح الشخصية. ومصطلح النخبة لا يدل فقط على الذين يتبوأون مراكز صنع القرار سياسية كانت أو اجتماعية واقتصادية داخل المجتمع، أو التأثير فى صياغتها، لكنه يقصد به أيضًا من يمتلكون الفكر والرؤية ومهارات خاصة تمكنهم من إحداث حراك يصنع تغييرًا فى المجتمع ويوجه الجماهير، وهو دور كانت تقوم به بكفاءة قبل ستة عقود النخب الحزبية بالتعاون مع النخب الثقافية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني. وبإلغاء الأحزاب ثم العودة إليها بعد سنوات طويلة من الغياب، تراجع دور الطبقة الوسطى المستنيرة نتيجة الخلل السياسى والاجتماعى والاقتصادى الذى حل بشرائح المجتمع, وانتشار علل الفساد والرشوة والواسطة والمحسوبية، وتجاهل الدولة لها، وبتراجع دور الطبقة الوسطى اختفت النخب الوطنية، ليحل محلها نخب التكنوقراط، التى تمتلك رؤية نظرية لكنها غير قادرة على تحويلها إلى واقع عملي، يعاونها طبقة وصولية من مثقفى السلطة، تهيمن على الساحة، وتفرز فكرًا مرقطًا يخدم السلطان ولا يخدم الوطن، أما النخب الحزبية الجديدة فافتقرت إلى الرؤية والامكانات والشعبية، التى تتيح لها بلورة أجندات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة وتحويلها إلى قرارات عامة، أو التأثير فيما يجرى على أرض الواقع من أحداث، وبالتالى فلم يكن لها وجود حقيقى أو شعبية فى الشارع المصرى بعد التحولات التى شهدها المجتمع. لهذا فحين قامت ثورة 25 يناير لم يكن على الساحة المصرية أى نخب حقيقية مؤثرة، وافتقرت الثورة بعفويتها إلى قيادات وطنية، تقودها وتجسد طموحها نحو استكمال الأهداف التى بذل الشباب دماءه من أجل تحقيقها، وبرزت على السطح أسماء وقيادات لم يكن لها أى دور فى إشعال الثورة، ولم تعان أو تتحمل مجرد المخاطرة بالمشاركة فيها، بعضها كان حين قامت قابعًا فى منزله ولم يشارك إلا بعد الاطمئنان على نجاحها، وبعضها كان موجودًا خارج البلاد يترقب نجاحها أو فشلها ليتخذ قراره، وبعد تأكده من نجاحها عاد ليحمل على الأعناق ولينظر إليه على أنه مفجرها، كما كانت هناك أطراف ذات تأثير ظرفى مثل حركتى «كفاية» و «6 إبريل»، أما الشباب الذين فجروا الثورة فتم إقصاؤهم عبر مجموعة من الوصوليين، استطاعوا ركوب الموجة بفضل صوتهم العالي، ليقدموا أنفسهم للسلطة الجديدة باعتبارهم ممثلى شباب الثورة، محققين مكاسب شخصية عديدة على حساب ثورة الشعب. وكان طبيعيًا فى ظل هذه الظروف أن تقفز على السلطة المجموعة الأكثر تنظيمًا، أعنى «الإخوان المسلمين»، وقد كان بوسعهم أن يكسبوا من الفرصة التى أتيحت لهم وجودًا دائمًا، إلا أن الطمع أعماهم عن تلمس حقيقة أن الشعب الذى ثار ضد الفساد والإقصاء، لن يقبل أن يتم إقصاؤه مرة أخرى وانتزاع ثورته منه، وكانت ثورة 30 يونيو رد فعل لدكتاتورية الاخوان، وتصحيحًا لمسار الثورة. لقد أحيت ثورة 30 يونيو الأمل فى عودة القرار إلى الشعب صاحبه الحقيقي، وأحدثت حراكًا تخلل الوعى الشعبي، وأسهم فى تنبيهه إلى ضرورة تعاضد جميع أطيافه للتعامل مع فضائهم المشترك، والبحث عن نقاط التقاء وهو ما تبدى فى البشائر التى حملها الدستور الجديد، والذى تدخل به البلاد عصرًا جديدًا ينتقل بها من مركزية القرار وجموده إلى نمط تداولى للسلطة. ونحن اليوم إذ نبدأ انتخابات رئاسية جديدة مطالبون باستيعاب هذه اللحظة التاريخية، والوعى بظروفها والاستجابة لنبض التاريخ وآمال الوطن، فليس مهمًا مَنْ يكون الرئيس، بقدر ما يهم أن يكون قادرًا على بلورة رؤية تحقق ما يأمله الشعب، ويمتلك عزيمة تنفيذها، وأن يستوعب أخطاء من سبقوه إلى الكرسي، فلا يكررها بإحاطة نفسه بنخبة فاسدة تزين له طريق الهلاك، بجعل قراراته علوية بمعزل عن شعبه، فالرئيس الذى يعى مسئولياته جيدًا يدرك أنه يستمد قوته وقوة قراراته من نبض الشعب، فقد مضى عصر الزعيم الفرعون، والشعب الذى خلع رئيسين فى عامين ونصف العام قادر على خلع مَنْ يقصيه ويستهين بحقه فى حياة حرة كريمة. لمزيد من مقالات أسامة الالفى